( 110 ) مدار الأفكار
اعتگاف الأسلاف
يقول الشاعر العربي :
ترنموا بالذكر في ليلهـم= فعيشهم قد طاب في الترنم
قلوبهم للذكر قد تفرغـت= ودموعهم كلؤلؤ منتظـم
في شهر رمضان تتنوع العبادات، وتتضاعف الأجور والحسنات، وتتنزل الرحمات وتعم الخيرات، ومن
خصائص هذا الشهر الكريم أن العشر الأواخر منه تحظى بالاهتمام إقتداء بسنة سيد الأنام فقد كان النبي صلى
الله عليه وسلم يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها،فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهدُ في غيرها )، وقالت أيضا: (كان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا دخل العشرُ شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله )، ومن الأعمال التي يعملها في العشر الأواخر :
الاعتكاف وهو لزوم المسجد والتفرغ للعبادة طاعة لله عز وجل،وقيل في تعريف الاعتكاف هو: (قطع العلائق
عن كل الخلائق للاتصال بخدمة الخالق)، والمقصود بذلك قطع العلائق الشاغلة عن طاعة الله وعبادته
والاعتكاف من السُنن الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى : (وَلاَ تبَاشرُوهُنَّ
وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) (البقرة:187)، وقال سبحانه وتعالى : (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا
بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) (البقرة : 125 ) وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله
عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده)
والاعتكاف من السُنن المهجورة التي قلَّ العمل بها وغفل عنها كثير من الناس، قال الإمام الزهري رحمه الله:
(عجباً للمسلمين ! تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله
عز وجل )، وقد شُرع الاعتكاف لحِكَمٍ عظيمة، منها: زيادة الصلة الإيمانية بالله، والجوانب العبادية التي
تزكي النفس وتجعل المرء أكثر قدرة على مواجهة فتن الدنيا والعمل على استنقاذ الآخرين منها، إضافة إلى
أنه فرصة عظيمة لطلبة العلم الذين اشتغلوا بتحصيله ومن ثم تعليمه، وقيل إن من أعظم ما يقصد من
الاعتكاف التماس ليلة القدر، قال ابن القيم رحمه الله : ( لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره
إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيته على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب وفضول المخالطة، وفضول
الكلام، وفضول المنام مما يزيده شعثاً، ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله، أو يضعفه أو يعوّقه
ويوقفه: اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب،
وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه
بالخلق، فيُعِدُّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور،حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود
الاعتكاف الأعظم، ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم، شرع لهم الاعتكاف في أفضل أيام الصوم،
وهو الأواخر الأخير من رمضان)، ويقول سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله : (الاعتكاف عبادة
وسنة وأفضل ما يكون في رمضان في أي مسجد تقام فيه صلاة الجماعة)، ويقول محمد اليحيى : (لقد شرع
الله لعباده كثيراً من الطاعات التي تجمع على المرء الجوارح والقلب لينشغل بعبادة الله تعالى وحده، وإن من
أجلّ هذه الطاعات تلك السّنّة التي يخلو المرء فيها بربه خاضعاً فيناجيه معترفاً، وينصرف بها عن الدنيا
فتزكو نفسه وتسمو ليصبح إنساناً ربانياً، إنها السنّة التي حافظ الرسول عليها طوال حياته، إنها سُنّة الاعتكاف
)، ولقد حرص رسول الأمة على هذه العبادة رغم انشغاله بالدعوة والتربية والتعليم والجهاد، تاركاً لمن يقتفي
أثره وينتهج نهجه درساً عظيماً في أهمية الانقطاع إلى الله عز وجل والتحرر من المشاغل والمسؤوليات كائناً
من كان صاحبها في الدعوة والعلم. ؛ وقد بلغ السلف الصالح في جوانب العبادات غايات يستصعب ضعاف
الهمم السعي إلى مقاربتها فضلاً على الوصول إليها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبيناً أهمية بقاء
المرء في ذكر دائم: (الذكر للقلب كالماء للسمك؛ فكيف يكون حال السمك إذا خرج من الماء؟)، ويقول ابن
القيم رحمه الله : (حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة فصلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من
انتصاف النهار ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغد سقطت قوتي)، و يقول مالك بن دينار رحمه الله :
(ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل فليس شيء من الأعمال أقل مؤونة منه ولا أعظم لذة، وأكثر فرحة
وابتهاجاً للقلب)، ورغم أهمية الاعتكاف وفضله إلا أن بعض الناس يترك عمله، ووظيفته وواجبه المكلف به،
كي يعتكف، وهذا تصرف غير سليم ؛ إذ ليس من العدل كما يقال أن يترك المرء واجبا ليؤدي سنة ؛ فيجب
على من ترك عمله المكلّف به واعتكف، أن يقطع الاعتكاف، ويعود إلى عمله لكي يكون كسبه حلالا، وأمّا
إذا استطاع أن يجعل الاعتكاف في إجازة من عمله أو رخصة من صاحب العمل فهذا خير عظيم، وتصرف
قويم .
يا متبع نهج النبي خيـر منهـاج= لا يبعدك عن منهجه عاتي الموج
أحيّ الدجى في مرتجى وال الأفراج= ولك بالتضرع والدعاء خير منتوج
عبدالعزيز الفدغوش