ماجدة ,
الأمة ,
الشاعر ,
العراقي ,
الوتر ,
اسماعيل ,
خسارة ,
عبدالوهاب ,
ومعنوية ,
قصيدة ,
كلّفوا ,
كتّابها
وكالة أنباء الشعر/ حاوره: عمر عناز بينما تشرق شمس كل صباح على عاصمة الدولة الآشورية نينوى، وحيث ينسكب الضوء من أعلى تل التوبة حتى أدنى ضفاف دجلة مضيئا كل بيوتات الموصل القديمة مدينة أبي تمام وابن جني ، يسيل ندى الشعر على صفحات أوراقه معلنا انها القصيدة تطل من بين راحتي شاعر تتنفسه العربية ويتنفسها، إنه الشاعر العراقي عبد الوهاب اسماعيل، مشرق الروح يصافحك بابتسامة تطفح شعرا وطيبة تعيد لك الثقة بما في ذات الشاعر من مثابات ضوء ومن وهج يضيء مساحات المحبة والألفة في الإنسان .. وكالة أنباء الشعر التقته وكان هذا الحوار..
-رغم كتابتك للقصيدة العمودية ، تنتمي لجيل شعري تبنى فكرة الانقلاب على عمود الشعر وذهب لأقصى ما بشرت به قصيدة التفعيلة من فتوحات .. ترى هل كان فعلا اختياريا بحكم ان هذه القصيدة استوعبتك اكثر من غيرها شكلا.. أم هي سحر موضة الكتابة آنذاك ؟ . الإثنان معا . كان فعلا اختياريا يوم وجدنا نفوسنا نعانق هذا الايقاع الجديد الجميل من الشعر ونرى خفوت صوت القصيدة العمودية بعد موضة عارمة غلقت أمامها كل الأبواب ، فامتلأت مساحات الصحف بالمولود الجديد كما نلحظ اليوم ، في موضة النثر وانتشار مساحة منابره في كل مكان . ولكن شتان ما بين الحالتين . فالتفعيلة شعر والتزام بأسس الشعر ، والنثر نثر لا مكان له تحت أي لافتة شعرية . -بعينين مضيئتين بالشعر.. كيف يصف لنا عبد الوهاب اسماعيل تجربته الشعرية الممتدة لنصف قرن .. وما أبرز المحطات الشعرية التي يؤشرها في هذه التجربة ؟ أحببت الشعر في مرحلة الدراسة الأعدادية ، وأثار فيَّ الحماسَ له وتذوّقَه أصدقاءُ من أبناء جيلي ، كان لهم السبقُ في القراءة الشعرية وولوج عالم الأدب ، أوّلهم سامي الموصلي وأبرزهم الشاعر معد الجبوري ، ثم بقيّة العشرةِ الطيّبة من أولئك الأحباب الذين تفتّحتْ عيونُهم معي على مجلات الأدب وكتب الشعر ، وكانت مجلة الآداب البيروتية والأقلام العراقية أكثر المجلات تأثيراً في صياغة شخوصنا الشعرية ، قبل أن ندخل عالم الشعر بقوّة في مهرجان أبي تمام في الموصل عام 1971 ، لتتوالى بعده المحطات عبر المهرجانات ومرابد الشعر ومؤتمراته المتلاحقة حتى هذه اللحظة التي نخلد فيها إلى الصمت تقريبا ، بسبب ضراوة المحنة التي تواجهنا كأمّة وشعب ، وكمثقفين وشعراء .. لقد كنت مقلاّ رغم حبّي للشعر ، ولم أخلص له كما فعل أقراني من الشعراء ، فقد أخذني صخب الحياة إلى استرخاء بعيد عن معاناة الفعل الفني ، وبعيد عن جهد وتعب المثابرة والمتابعة الدؤوبة التي يواجهها الشاعر عندما يهم في بناء نماذجه الأبداعية ، فكلي ندمٌ الآن على ما فرّطتُ في مساحة العمر ، وأهدرتُ من فرص لم تستغل بالعطاء ، في وقت بدأت نذر النهاية تلوح بسحائبها في الآفاق القريبة . -في معرض انتقاده لما يقدمه النقاد الأكاديميون من منتج بحثي .. يقول أحد الشعراء أن على ناقد الشعر أن يكون عارفا بالوزن الشعري وإلاّ فرؤيته وقراءته النقدية منقوصة .. كيف تعلّق على هذا القول ؟ . لا يمكن أن يدلي ناقدٌ برأيه في ميدان لا يعرف أوّليات وبديهيات مكوناته ، مهما بلغت درجة ثقافته وحرفيته من سمو ، أو تكاملت معرفته بكثير من العمق والدقة واستكناه المعنى ، فالوزن الشعري هو الشعر ، وغيابه يخرج النص عن دائرة التعريف المصطلحي للشعر حسب رأيي . ومن هنا نلحظ النقص فيما يكتب من نقود في ميدان الشعر ، ممن يدّعون بأستاذيتهم وعلوّ قاماتهم في مساحة النقد ولا يجيدون الوزن الشعري ، حيث نستطيع أن نتبيّن قصور فهمهم الأوّليّ للشعر ، بعد قصور معرفتهم بالإيقاع وعظمة دوره في إضفاء المعنى على المعنى ، وتعميق روحه الإيحائية لتشكيل العبق الدلالي المؤثّر، كنصّ يفعل ويتفاعل مع تردّدات المشاعر الإنسانية ، في جو مغناطسي يتوهّج بحرارة النغم وصفاء الروح .. -عملتَ مديرا في دائرة الثقافة الجماهيرية وكنتَ على تماس مباشر مع معظم المواهب الشعرية والأدبية .. إلى أي مدى ترى جدوى هكذا مؤسسات في اكتشاف المخبوء من إمكانيات ثقافية ؟ لقد فعلت الثقافة الجماهيرية فعلها في ساحة الإبداع ، ويذكر الكثير من شعراء وأدباء هذا الجيل - من بقي منهم حيّا يصارع لجة الحياة ، وكذلك من رحل منهم وكتبت له الأسبقية في مغادرة هذه المحنة - أن المؤسسات الثقافية ضرورة تقتضيها كل المراحل العملية الجادّة في التنمية العقلية والروحية والثقافية .. لقد عايشنا تلاحق أجيال ابتداء من أترابنا ، وصولا إلى هؤلاء الشوامخ من أصحاب الأسماء المتألّقة التي أثبتت حضورها في الميدان الآن . فوجدنا بالتجربة أن دور المؤسسات الثقافية دور فاعل يدفع بمسيرة العطاء ويزيد من زخمها المتصاعد ، على عكس اعتماد المبدعين على جهدهم الخاص فقط ، وتواصلهم الفردي المتوزّع هنا وهناك ، والمتفاوت في التأثير بين هذا وذاك . لقد كانت لجان الشعر ومهرجاناته ولجان القصة ولقاءاتها والاماسي والفعاليات حافزا دفع إلى الكثير من العطاء ، واستقطب الكثير من المبدعين ، وخلق البيئة الرائعة الفعالة التي ساعدت على ترسيخ علاقة الشاب بمنظومة عشقه الفني ، فترسخ ذوقه وعلت همّته واتسعت آفاق رؤاه ، ليجد اسمه وشخصه وملامحه وقد تأطرت بتشكيل إبداعي لا يستطيع منه الفكاك ، ولنجد بين مرابعنا الآن قامات عالية ، لم تكن لتتواصل وتصبح وجودا فاعلا كما هي الان ، لولا المؤسسات والمجلات والجرائد والإعلام والفعاليات الأخرى . بل وفي أقل الإحتمالات ، لم نكن لنجد بيننا هذا العدد الكبير من هؤلاء ، على عكس ما كانت حالتنا - نحن جيل البداية - يوم كنا نحرث لوحدنا في أرض الله . -يتهمك البعض أنك شاعر مؤدلج ، مايجعل المعطى الشعري الذي تقدمه يدور في فلك أحادي قد لاينسجم إلا مع متلق يتصالح معك فكريا.. ماتعليقك ؟ لا يوجد إنسان لا تفرض عليه إنسانيته أديولوجية معينة ، وهذا قدر الإنسان مع العالم والحياة . ومن هذا المنطلق تتداخل الأحاديات وتنسجم مع بعضها ، مهما اختلفت في القراءة السطحية للأشياء ، وكلنا يتذكّر كم تعاطفنا مع كتّاب أبدعوا في إنتاج أعمالهم بطريقة مذهلة ، كسرت الحدود الفاصلة بين الأحاديات ، وخلقت من الطرح الإنساني وحدة رؤيوية للعالم ، وكلنا يتذكر الروايات العظيمة للكتّاب الروس والأوربيين الشرقيين ، وقد تناول بعضها معاناة يهود العالم ، بطريقة يمكن أن تنسيك تناقضك مع ما يعتبرونه قضيتهم العادلة ، والتي هي ليست كذلك . -يصر كتابها انها اكتسبت الصفة الرسمية في عالم الشعر.. قصيدة النثر .. ماقراءتك لهذه التجربة التي واكبتَ حضورها في الساحة الشعرية ؟ لا يوجد شيء اسمه قصيدة في النثر ، فهو نثرٌ محض ، وكان خير من سمّى هذا النمط من الأدب المرحوم الشاعر العراقي حسين مردان ، يوم أطلق عليه النثر المركّز . فلا شعر بدون موسيقى وإيقاعات وأسس فنية ثابتة متعارف عليها . وعند خلو أيّ عمل من شروط الشعر الاساسية يصبح نمطا آخر من الإبداع . ثمّ لماذا الإصرار على إلصاق ما يكتبون بالشعر ، ويخترعون له المصطلحات والموسيقى الداخلية والخارجية والأوصاف والمسمّيات ، وهم أعجز من أن يكتبوا بيتا أو سطرا موزونا ، ويتهرّبون وراء الألفاظ غيرةً وحسدا للشعراء الحقيقيين ، وشعورا بالنقص أزاءهم . أنا أقول بصراحة ، لم يطربني نصٌ واحدٌ من هذا الغثاء حتى لو كتبه أدونيس أو الجواهري أو المتنبي ، وأن كل الأوراق وعلب الأحبار وجهود الناشرين والطابعين ، والتصاميم والتخطيطات ، والرسوم والزخرفات ، بعثرةٌ ولغوٌ فارغ أتاح لكل من هبّ ودبّ أن يدّعي وصلا بليلى ، وليلى لا تقرُّ لهؤلاء العابثين العاجزين بوصلٍ ، وقد بلغوا الآلاف ، وكلّفوا الأمة خسارة مادية ومعنوية . -يقول بعض كتّاب قصيدة النثر إنكم – شعراء العمود والتفعيلة – وبحكم ألفتكم مع المؤسسة الثقافية في العراق كنتم تقفون منهم موقف الضد ، وترمونهم بدعوى التخريب الثقافي وماشابه .. ماذا تقول في هذا الخصوص؟ لم نقف ضدّ أحد ، ولم نـألف المؤسسة الثقافية في العراق ، فقد ألفتنا هي بعد أن جهدنا في أن نكون ، وقرأنا في يوم كان ثمنُ الكتاب يحرمنا من لقمة الخبز ... ولم تفتح لنا الأبواب في الكثير من الأحيان ، ودخلنا الغرفة من الشبابيك . وأذكر أن صحف العراق المركزية لم تنشر لي قبل أن يظهر اسمي ويتكرر في مجلة الآداب البيروتية مثلا ، وكانت منبرا للكتّاب والأدباء العرب الكبار ، ومن يحظى بفرصة النشر على صفحاتها ، يتصدّر المشهد الشعري بجدارة . لذلك لم نتصدّ لأحد ، ولم تكن بين أيدينا وسائل تقودنا إلى مدافعة الآخرين ، ومناكفتهم في اختيار طريقهم الإبداعي ، وها هم يملأون الدنيا ، وسنرى لمن ستكون النتيجة ، فكثيرا ما أسأل أصدقائي الشعراء - بل أحرجهم - أن يذكروا لي اسما متفرّدا من بين هؤلاء ، إستطاع أن يكون ولو في قعر الذاكرة ، وحتى لو أنّه قد نشر المئات من النصوص ، أتمنى أن أكون مخطئا ، ليظهر بينهم البياتي والسياب ودنقل وعبد الصبور وحجازي وعفيفي مطر وسعدي يوسف ومعد الجبوري وغيرهم من جديد -واكبت مسيرة شعرية طويلة في العراق الذي يعد موطن التغيرات الشعرية.. هل بالإمكان أن تحدد لنا ذهبية عصر الشعر في العراق منذ النصف الثاني من القرن الماضي حتى الآن .. ولماذا؟ لم يغب الذهب الشعري عن العراق لا في الزمان ولا في المكان وعبر تاريخه أبدا . فقد كان فيه من الشعراء عددٌ يساوي عدَّ نخيله ، وكان فيهم من العطاء الشعري الذهبي الدائم ما يفوق ديمومة ذهب منائر العراق وقبابه المقدسة . أليس العراق وطن الشعر وساحة المتنبي وأبي تمام وبشار وأبي نؤاس ، ومرابده نقائض الفرزدق وجرير ، وروائعه للشريف الرضي والحبوبي والجواهري والسياب ونازك والبياتي وغيرهم ، ولا يقل شأنا عنهم كذلك من أكّد هويته الذهبية من مجايلينا في النصف الثاني من القرن المنصرم ، ومنهم عددٌ من أبناء الموصل الكريمة المعطاء ، فلا خوف إذن على ذهبية الشعر ، فهو محفوظ في صدور الأمة وصدور العراقيين تستصفي منه الدرر وتحفظ الذرى ويطمس الدون وتُنسى الهوامش الباهتة . -كيف تقيّم واقع الشعراء العراقيين في ظل الظروف الراهنة التي يعيشون؟ يعيشون في محنة الإستهداف والغزو والإحتلال ، وفي مرحلة تفتيت المفتّت وتجزئة المجزّأ على مستوى المكان والزمان ، وقد أصبح القابض منهم على جمرة الرفض كالقابض على جمرة من نار ، تأكل أصابعه ويستحي أن يبوح أو يجأر بالشكوى حتى في خلوته أوعزلته الروحية والحياتية عن كل ما يدور حوله . نحن نعيش العمى يضرب في أعماق الارض وتخمش أظفاره عنان السماء فتترك فوق خديها حفرا غائرة ، وخرائط مكسورة الرؤى محبطة بأجنحتها الواهنة ... ولا مغيث لنا من وهدة الإنكسار غير أقلامنا ، ننفرد مع صريرها في دجنّة الغلس ، لنسكب عصارة الحزن واليُتم والندم والإحباط على الورق ، عسى أن توقد في ما يعقبنا من روادف وخلائف شعلة الأمل أوبصيص ألنور . -يرى البعض أن المستقبل لقصيدة النثر معللا ذلك بمواكبته لمتغيرات العصر والإغراض الشعرية التي تعالجها ، بماذا تفسر ذلك ؟ ليس في النثر قصيدة ، وليس لهذا المصطلح مستقبل ، فعلى أصحابه أن يجدوا لهم ملاذا يرتاحون فيه من مواكبة متغيرات العصر ... فبرغم عصريتهم المدّعاة لن يجدوا لهم في ساحة الشعر الحديث موطئ قدم ، وإلاّ بماذا نفسّرعجز أي متابع عن أن يعدّد خمسة أسماء استطاعت أن تؤكّد حضورها في الميدان ، واستطاعة هذا أن يعدّد عشرات الأسماء بل المئات ابتداءا من الجاهلية وحتى 2011 من الشعراء العموديين والتفعيلين ؟.. أليس هذا الأمر دلالة على الصخب المنفوخ والعدم كما يقول الشاعر؟ . مع الجواهري - هل تتفق مع من يقول أن الشعر عراقي ، أم انه قول يصدر عن اقليمية في الفهم الشعري ؟ الشعر عربي وإلا فسنشطب عمالقة الشعر في بلاد الشام ومصر والسودان واليمن وأقطار الأمة الأخرى وشعراء المهاجر . وإذا كان الشعر قد توهّج في العراق فلوجود العرب القديم فيه ، ولوجود مدارس اللغة والفقه والنحو ومراكز الفعل السياسي أيضا عبر تاريخ الأمة ، ولوقوع العراق بين تصادم وتناغم حضارات أمم أخرى مع حضارة ووعي الأمة العربية ، وكان العراق ساحة لهذا التلاقح الخلاق . -كان لك مشوار في الصحافة ، ألا ترى أن اندماج الشاعر أو الأديب في هذا الميدان يمتص من وهجه الثقافي ويهدر مالديه من طاقات إبداعية ؟ أذكر قولاً للشاعر الفيتوري في لقاء معه مرّة في مهرجان أبي تمام في الموصل ، ذكر فيه أنه ترك كتابة الشعر - بل تركه الشعر طويلا - يوم كان يعمل في وكالة للأنباء في إحدى الدول العربية ، مضيفاً أن جمرة الإبداع هي اكتنازٌ لشحنة من الوهج وكهربائية تتسرب عبر الروح بكل الوسائل ، فحين يكتب الشاعر خبرا صحفيا ، يكون قد أفرغ جزءا من تلك الشحنة قبل ان تتألق في قصيدة يكتبها ، وهكذا كنت أفرغ شحنتي عبر كل تلك السنوات أخبارا وتقارير صحفية ... وأنا أشاركه الرأي في هذا المنحى -وقريبا أيضا من الصحافة ، عملت في وقت سابق في دائرة الإذاعة والتلفزيون في العراق ، إلى أي مدى خدمت هذه المؤسسة الأديب والمثقف العراقي ، في زمن كانت فيه ماكنة الإعلام العراقية مسخرة باتجاه عسكري بحكم ظروف الحرب آنذاك ؟ العسكرية جزء من حياة وتاريخ الحضارات والامم ، وما يدور في ميدانها يشكّل حياة أخرى تستمدّ مواصفاتها من محيطها الخلفي ، لتدفع فيه وبه في الميدان منتصرة أو منكسرة ، وإذا كان شعراؤنا قد أبدعوا في كتابات الحرب ، فقد سبقهم المتنبي الذي يشكل هذا الصنف من العطاء نسبة 90 % من أشعاره الخالدة ، ويطرب كل من يقرأ لهذا العملاق وصف الجيوش المتلاطمة والمعارك المحتدمة والسيوف اللامعة ، بحسّ تصويري نفسي مبدع . فلماذا نعيب على ماكنة الإعلام إذن ترويجها لثقافة مرحلة معينة ، ونخرج تلك الثقافة وذاك الفن من الدائرة الكبرى لمعنى الإبداع ؟. -يقول أحد مجايليك من شعراء التفعيلة أن قصيدة العمود قد استهلكت ولم تعد تستوعب كل ماتختزنه الذات الشاعرة .. ماقولك ؟ لم يستهلك شكل ولم يستهلك معنى . المعاني تتردّد وتتكرّر ، ولم يغادر الشعراء من متردّم - كما يقول عنترة - منذ الجاهلية ، بل كانوا يردّدون ويكرّرون المعاني بالكثير من التجديد والإبداع . كما أن المباني وأقصد الأشكال لم تستهلك أيضا ، إبتداءا من امرئ القيس حتى أبي تمام فأبي نؤاس وشوقي والجواهري وبدوي الجبل ، وصولا إلى الشباب الرائعين من أبناء الموصل كوليد الصراف وعمر عناز وأوس افتيحات ومحمود الدليمي وهزبر محمود وحمد الدوخي وغيرهم ، من جيل استخدم عمود الشعر بشكل مذهل جديد ، شكل احتفظ بذلك العمود كوعاء وبرهن على أنه لم يستهلك ... وأنا أشد على أيادي هؤلاء ، وأعتذر ممن نسيتهم في هذه العجالة من زملائهم المبدعين . -ليس بعيدا عن الشعر .. أود أن أسالك عن تجربتك في مجال الشعر الشعبي خصوصا أن للشعر الشعبي العراقي حضوراً مميزاً في الساحة العربية ؟ في الشعر الشعبي جمالياتٌ وصورٌ هائلة ، لم يتناولها الشعر الفصيح اليوم ، بسبب ابتعاد الفصحى عن كونها اللغة المحكية أو وعاء للموروث الشعبي المعاصر الجميل . والشعر الشعبي شعر موزون مقفى ، وشعر تفعيلة ، وشعر تجديد ، كما هو شعر تقليد لقديم رائع أيضا ، فعلى كل شاعر أن يغني تجربته بالإطلاع على كل روائع الشعر وأصنافه طالما اندرج هذا الشعر في حومة الميدان وصهلت أفراسه فيه ، وقد جرّبت الكتابة بلهجة جنوب العراق ولهجة البادية ولهجة مركز الموصل ، وأعتزُّ بعددً من هذه النصوص ، كما أفرح ببعض الذي كتبتُه بالفصحى . مع نزار قباني -بخصوص الأغنية العراقية ، لديك تجارب في هذا المجال ، كيف تقيم النص الغنائي العراقي حاليا في ضوء مانشهده من سرعة إيقاع وكلمات لاتشبه ماتعرفنا عليه سابقا من شعراء الأغنية العراقية ؟ كتبت نصوص الأغاني لأصدقاء قدّموها في ميدان الإعلام ، وكذلك نصوص الموشحات الدينية وأغاني الأطفال ، ومع احترامي لكل فن جميل ، إلاّ أنّ روحي تجنح للأغاني الرصينة الخالدة ، من أغنيات وأبوذيات الريف ، وإلى النايل والعتابة والمقام العراقي والقدود الحلبية ، وروائع فيروز وأغاني بغداد الأصيلة . واليردلي وبستات الموصل ، وأقدّم جزيل احترامي لروائع الخمسينات والستينات وما سبقها ، في نفس الوقت الذي أتحفّظ فيه على أغنيات (الكروباتيك والسيرك )، من أشكال تشبه قصيدة النثر في عالمنا ، والتي يردح بها ( الموهوبون ) !! من أبناء هذه الفترة الضائعة أو (الاستراحة / الاستباحة) بين فصلين من فصول عمر عطائنا الحضاري . -تقول في احد تصريحاتك " كل ما كتبته هو دفق من الوهج الصارخ الذي أصطخب بين حنايا صدري وأنساب بفوضويته وجنونه على الورق " هل أفهم أنك شاعر غير قصدي في كتابته ؟ نعم ، فعندما أهمُّ أن أكتب القصيدة لم أعرف ماذا سأكتب ، بل أحسُّ بشيء يحاصرني وحالة من الإنجذاب الفعلي ( في لغةً وعبارات وإيقاعات ) فأبدأ لأجد نفسي في النهاية وقد سطّرت حالة ، تعلّقْتُ أثناء ولادتها بين الوعي واللاوعي ، ليربطني خيط واهٍ مع الحضور ، وخيط آخر مع الغياب ، على طريقة الدراويش الهائمين في حبّ المطلق ، والذائبين في الوجد الصوفي ، الذاهلين عن متطلّبات المادي والواقع الارضي ، لتتكشّف أمامهم آفاق العشق وتغمرهم هالات الرؤى اليقينية ، ثم أصحو لأعود إلى الورقة بعد فترة قصيرة أو طويلة ، فأقرا ما كتبت قراءة الناقد ، وأتمعّن بالصورة تمعُّن المشاهد ، بكل ما يحتاجه من خبرة وحسٍ إدراكي ، فأجور أحيانا على النص ، وأرمّم أحيانا ما تهدّلَ منه أو تراكم على غير ما يسرُّ ويفرح ، وهكذا فأنا شاعرٌ كما أحسّ وكما يقول الآخرون ، أمّا القصديّة وغير القصدية ، فلم تدخل في حسابي يوما -في زمن ثقافة الصورة والمعلوماتية وشبكات الإتصال ،، ألا ترى أن مساحة الإهتمام بالشعر انحسرت .. وما الدور الذي يجب أن تتبنّاه المؤسسة الثقافية لتدارك هذه الحالة ؟ الصورة والمعلوماتية وشبكات الاتصال لم تحسر مساحة الشعر ، بل ساعدت على انتشاره ، ولكن النماذج المشوهة التي تنشر منه والتي تحمل اسمه زورا ، هي التي فعلت فعلها الآثم في إيذائه والتقليل من وجوده ودوره في حياة الناس ، ولأن الشعر فاكهة الحياة ، فقد يستغني عنها البشر إذا أصابها النخر ومستها العفونة وهنا تكمن الخطورة. -أعلن أدونيس في الآونة الأخيرة اعتزاله الشعر، وقد جاء هذا التصريح متزامنا مع الإعلان عن جائزة نوبل التي وكما كان يعتقد الكثيرون أنها لأدونيس بلا شك .. كيف تقرأ إعلان اعتزال شعري لشاعر مثل أدونيس؟ لقد اعتزل أودونيس الشعر منذ زمن . منذ استهوته لعبة النثر ، وعندما يعلن اعتزاله فهو يقرر حقيقة واقعة ، (ولا أنكر أنه شاعر كبير) ، أما موضوع جائزة نوبل ، فهناك شعراء أطول قامة وأكبر أثرا من (علي احمد سعيد ) الذي ركب موجة التجديد بفوضوية خلاّقة أساءت إلى مكانته الشعرية الكبيرة في المشهد الشعري المعاصر -عرّف لي هذه الأسماء؟ الجواهري ... شاعر العرب الاكبر يوسف الصائغ ... روح متوثّبة ووعي هادر .. وولهٌ بالجمال .. ومسرحيّ كبير .. وتشكيلي مبدع .. شاعرٌ متألقٌ خلقَ من صبر عجائزنا أراجيز حياته ، وصاغ من أحلامهن أغاريده العذبة . عبد الوهاب البياتي ... شاعرٌ كبير خدمته السياسة ، وتبنّته جهاتٌ كثيرة ، إلى حدّ المبالغة في رسم تسلسله الإبداعي والتاريخي في تأسيس حركة الشعر العربي الحديث . عبد الرزاق عبد الواحد ... شاعرٌ لا يمكن أن يُنسى أو يُنسى عطاؤه الشعري ، في مرحلة من أدقّ مراحل الحياة العراقية .. معد الجبوري ... ذروة جيلنا وقامته العالية ، أعطى وصدق وأخلص للشعر وحب الحياة ، واحد من رواد المسرح الشعر العربي . -في ختام لقائنا .. نود أن نحمل للجمهور قصيدة جديدة من الشاعر عبد الوهاب اسماعيل.. بل قديمة أراها تتجدد ( صبوات متأخرة.. ) ( من مجموعة: هواجس على مرآة خاصة ، الصادرة عام 2001 ) لو كنتُ أعلمُ ما عشقتُ ، فكيف ؟ والعشاقُ ماتوا .. عبروا على جسدي ، وأغنيتي وأنكَرَني العَواذلُ ، والوشاةُ .. لو كنتُ أعرفُ ، ما كتبتُ لكِ النشيدَ ، ولا قرأتُ لكِ الغزَلْ .. فالعمرُ ضاعَ ، مَسَحتُ بالحيطان كفِّي ، واستدرْتُ ، على عجَلْ .. الشيبُ في الرأس اشتعلْ .. ما كنتُ أعلمُ أنَّ من أحببتُ يقتلُني ، ويرميني إلى يأسي الجُناةُ .. ما كنتُ أحسَبُ أنَّ هذا الدهرَ يفعلُ ما فعَلْ .. بل كنتُ أُمسكُ ، حين يأخذني الوجََلْ .. ببقيّةِ الصبرِ الجميلِ ، أضمُّهُ في جانِحَيَّ ، وأستكينُ على أمل .. أن يأخُذَ العشاقُ ، دورَهمُو، وتجمعُنا الصلاةُ .. للهِ ما ألقى ، إذا عصفَتْ بهذا القلبِ ، عاصفةٌ ، رَمَتْها الذكرياتُ .. للهِ ما أبقى ليَ الصّحْبُ ، الغُواةُ .. عشقوا، وماتوا، فالتفتُّ لكي أُسمّيهمْ ، وأكتُبُ بعضَ ذكراهمْ ، على القلبِ الطلَلْ .. فتعَثَّرَتْ بي راحتايَ ، وَجفَّت الرؤيا، وفاتوا ..
hgahuv hguvhrd uf]hg,ihf hslhudg rwd]m hgkev ;j~hfih ;g~t,h hgHlm oshvm lh]dm ,luk,dm lh[]m hgHlm hgahuv hguvhrd hg,jv hslhudg oshvm uf]hg,ihf ,luk,dm rwd]m ;g~t,h ;j~hfih