في ذات ليله : كان الأب الشيخ شالح بن هدلان ساهراً مع إبنه الفارس ذيب ،
وكان والده يداعبه ويلقي عليه بعض الأشعار فأنشده هذه الأبيات :
يا ذيب أنا يابوك حالي تردّى ... وأنا عليك من المواجيب يا ذيب
تكسب لي إللي لاقِحٍ عِقب عدّا ... طويله النسنوس حرشا عراقيب
تجر ذيلٍ مثل حبل المعدا ... وتبري لحيران ٍ صغار ٍ حباحيب
وأشري لك إللي ركضها ما تقدا ... ماحدٍ لقى فيها عيوب وعذاريب
قبا على خيل المعادي تحدى ... مثل الفهد توثب عليهم تواثيب
أنا أشهد أنك باللوازم تِسدا ... لو حال من دونه عيال ٍ معاطيب
ليث ٍ على درب المراجل مقدّى ... ما فيك يا ذيب السبايا عذاريب
وبعد أن قال والده هذه الابيات بطريقة المزاح ، أسرها الابن ذيب في نفسه ، وعندما نام والده وأطمأن ذيب أنه قد أخذ في النوم ، ذهب خفيه وركب قلوصه وذهب لبعض أصحابه من الشبان وأمر عليهم أن يرافقوه فشدوا وركبوا مع ذيب وعددهم لا يتجاوز خمسة عشر شاباً ، وكلهم يأتمرون بأمر ذيب ، وبعد ذلك سألوا ذيباً إلى أين نحن ذاهبون ؟ فقال إلى ديار القوم وأشار إلى قبيلة عتيبة ، لنكسب منهم إبلا لأهلنا ، وقال لابد أن آتي لوالدي من خيار إبل عتيبة واستمروا بسيرهم ، وبعد ثلاثة أيام قصدوا بئراً في ديار عتيبه ليستقوا منها ماء ويسقوا رواحلهم ، وهذه البئر تسمى ( ملية ) وهي تقع غرباً عن جبل ذهلان بأواسط نجد وعندما انحدروا إليها من جبل يطل عليها رأوا عليها ورداً لعتيبة يستقون ، فأراد ذيب ورفاقه أن يرجعوا لئلا يروهم فينذروا القبيله بهم ، وكان من السقاة صياد أخذ بندقيته وتوجه إلى الوادي الذي إنحدر منه ذيب ورفاقه ، باحثاً عن الصيد ، وعندما رأى ذيباً وجماعته إختفى تحت شجرة أطلق عليهم عياراً نارياً فأراد الله أن يصيب ذيباً إصابه مميته.
لقد حلّت كارثه على أبيه الشيخ الطاعن بالسن شالح بن هدلان ، إنه فقد كل أمل في الحياة : فقد كل ركن على وجه الارض ، فقد الشجاعة الفذة ، فقد الكرم الحاتمي ، فقد الابن البار ، فقد الابن المطيع ، لقد خرّ ذيب صريعاً وودع الخيل وصهيلها وودع الابل وحنينها ، وودع أباه الذي هو بحاجة إلى بره وعنايته ، ترك ذيب شالحاً حزيناً ، وودع قبيلته قحطان المجيدة ، وودع سنانه ورمحه وبندقيته ، ونقع الخيل وهزج الابطال ، ودع ذيب نجداً ورياضها ودع غزلان الرئم والارانب وطير الحباري التي كان يصطاد منها لوالده ، لقد إنقشعت هالة الفضل التي كانت تحيط الشيخ شالح بالحنان والبر والفضيله التي ضربت أروع مثل ٍ بين الابناء والآباء.
بعد أن سقط ذيب على الارض أناخ رفاقه مطاياهم وتسابقوا إليه وضموه إلى صدورهم ، فوجدوه جسماً بلا حياة ، وانهالوا عليه بالقبل ، وودعوه بدموعهم الساخنه ، ثم وضعوه بكهف بجانب الوادي ، وقفوا راجعين إلى أهليهم.
أما الصياد الذي أطلق النار ، فقد ظل مختبئاً تحت الشجرة ، إلى أن رأى الركب قد ولى ، فأتى إلى مكانهم ووجد الدم يلطخه ثم عمد إلى ذيب وهو بكهفه وعندما رآه وجده شاباً وسيم الطلعه وفي خنصره الأيمن خاتم فضي ، وكانت رائحة الطيب تعج منه وكان لباسه يدل على أنه شخصية بارزه فرجع إلى جماعته الذيب يستقون من البئر ، فسألوه عن الرمية التي سمعوها عنده ، فقال إن ركباً من العدى إنحدر من الوادي وبعد أن رأوكم نكصوا راجعين فأطلقت عليهم عياراً نارياً قتل منهم شخصاً تبين لي أنه زعيمهم ، وقد وضعوه في كهف بجانب الوادي ، فقالوا وما دلك على أنه زعيم ، فبين لهم أوصافه ولباسه الذي عليه ، وإن في خنصره خاتماً فضياً ، فقالوا هيا بنا لنراه ، وكانوا من قبيلة برقا أحد جذمي عتيبة ، وكان معهم فتاة قد جلا أهلها منذ سنة إلى قبائل قحطان لأسباب حادثه وقعت بينهم وبين بعض قبائلهم من عتيبة ، وعندما رأوا ذيباً بالكهف ، ورأته الفتاة صاحت بأعلى صوتها ، وقالت ويحك هذا ذيب بن شالح بن هدلان ، الذي كنا بجواره بالعام الماضي ، فشتموها وقالوا ربما أن بينك وبينه صداقه ولهذا السبب صحت بأعلى صوتك ، فقالت لا والله لم يكن بيني وبينه أي شيء من هذا ولكنه أكرمنا وأعزنا وأجارنا ، وكان لا يأتي من الفلا إلا ومعه صيد ويأتي بقسمنا نحن جيرانه حامله بيده وعندما يقترب من بيوتنا يغض نظره إلى الارض ثم يضع ما جاء به من الصيد ويدبر دون أن يرفع طرفه بامرأه من جيرانه وهذه طريقته بالحياة وعليكم أن تسالوا عن خصاله ، وينبئكم عن ذلك من عرفه ، فهو بعيد كل البعد عن الرذيله .
ما أكبر المصاب على شالح لما وصل رفاق ذيب وأخبروه بما حدث ، لاشك أن خطب شالح عظيم وإن وقع نبأ مصرع إبنه على قلبه أشد وأنكى من طعن الحراب ، ولاشك أنه سيتجرّع ويلات الحزن ومرارته ومآسي الفراق ولوعاته ..
وإذا المَنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كُلّ تميمةٍ لا تنفعُ
إنها كارثه كبرى ليست على شالح فقط بل على عائلة آل هدلان وعلى قبيلة قحطان : وقد قال شالح أشعاراً كثيرة بعد وفاة ابنه ، وأول ما قال هذة القصيدة :-
يا ربعنا ياللي على الفطّر الشيب ... عز الله أنه ضاع منكم وداعه
رحتوا على الطوعات مثل العياسيب ... جيتوا وخليتوا لقلبي بضاعه
خليتوا النادر بدار الأجانيب ... وضاقت بي الآفاق عقب إتساعه
تكدرن لي صافيات المشاريب ... وبالعون شفت الذل عقب الشجاعه
يا ذيب أنا بوصيك لا تاكل الذيب ... كم ليلةٍ عشّاك عقب المجاعه
كم ليلةٍ عشّاك حِرش العراقيب ... وكم شيخ قوم ٍ كزته لك ذراعه
كفه بعدوانه شنيع المضاريب ... ويسقي عدوه بالوغى سِم ساعه
ويضحك ليا صَكّت عليه المغاليب ... ويلكد على جمع العدو باندفاعه
وبيته لجيرانه يشيّد على الطيب ... و للضيف يبني في طويل الرفاعه
جرحي عطيب ولا بقى لي مقاضيب ... وأفخت حبل الوصل عقب إنقطاعه
كني بعد فقده بحامي اللواهيب ... وكني غريب الدار مالي جماعه
من عقب ذيب الخيل عِرج ٍ مهاليب ... ياهل الرمك ما عاد فيهن طماعه
قالوا تطيب وقلت : وش لون أبا طيب ... وطلبت من عند الكريم الشفاعه
ثم أردفها بقصيدة على نفس البحر والقافيه وقال :-
ذيبٍ عوى وأنا على صوته أجيب ... ومن ونتي جضت ضواري سباعه
عز الله إني جاهل ٍ ما أعلم الغيب ... والغيب يعلم به حفيظ الوداعه
يالله يا رزّاق عِكف المخاليب ... يا محصي خلقه ببحره وقاعه
تفرج لمن صابه جروح ٍ معاطيب ... وقلبه من اللوعات غادٍ ولاعه
إن ضاق صدري لذت فوق المصاليب ... مانيب من يشمت فعايل ذراعه
صار السبب مني على منقع الطيب ... ونجمي طِمَن بالقاع عقب إرتفاعه
يا طول ما هجيتهن معْ لواهيب ... ولاني برادي كسرها من ضلاعه
ويا طول ما نوختها تصرخ النيب ... وزن البيوت إللي كبار ٍ رباعه
وأضوي عليهم كنهم لي معازيب ... إليا رمى زين الوسايد قناعه
أضوي عليهم واتخطى الأطاتيب ... وآخذ مهاويه الجمل باندفاعه
أبا أنذر إللي من ربوعي يبا الطيب ... لا ياخذ إلاّ من بيوت الشجاعه
يجي ولدها مذرب كنّه الذيب ... عِز لِبُوه وكل ما قال طاعه
وبنت الردي ياتي ولدها كما الهيب ... غبنٍ لبُوه وفاشله بالجماعه
يا كبر زوله عند بيت المعازيب ... متحرّي ٍ متى يقدّم متاعه
مع تحياتي ,,,