ولدت
فيروز باسم نهاد حداد, كأول مولود لوديع حداد وليزا البستاني, في الحادي والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر لعام 1935. كانت عائلة حداد تعيش في بيت متواضع مؤلف من غرفة واحدة في زقاق البلاط , الحي القديم المجاور لبيروت, حيث عاش الفقراء من جميع الطوائف, ولأجيال,
حياة مشتركة وآمنة.
بضعة عائلات أخرى كانت تعيش في تلك الدار وكانوا يتشاركون المطبخ والأدوات الأخرى. لقد كان ذلك زمن الهجرة إلى المدينة, ففجأة, كان يمكن أن تأتي عائلة من أي مكان لتبدأ بالبحث عن أقرباء مقربين أو حتى مجرد معارف من نفس الضيعة ممن وصلوا قبلاً إلى المدينة الكبيرة. وديع, الذي اشتغل كعامل مطبعة في مطبعة (le Jour) القريبة,كان هادئاً, حسن الأخلاق وسرعان ما اعتبره الجيران كواحد منهم.
نهاد, التي ستصبح فيما بعد فيروز, والتي تعتبر واحدة من أشهر المطربات في الوسط العربي والعالم أجمع, وأسطورة زمانها, كان لديها نزعة عفوية إلى الغناء منذ نعومة أظفارها. في ليالي الشتاء, ومع جمعة الجيران, كثيراً ما كانت تدهش الجميع برندحة أغنية ما. كانوا فقراء الحال ,كما تتذكر فيروز, لكنها تصر على أن حياتهم كانت سعيدة, دون تطلّب.
لم يكن بمقدور العائلة الدفع للحصول على جهاز الراديو, هذا الجهاز السحري الذي كانت تمتلكه قلّة محظوظة. لقد كان ذلك من ضروب الخيال, كان يعطي بيوت الفقراء شحنة من عزاء ومن شعور مبهم بالانتماء إلى ما كان ينبض بعيداً خلف حدود الوصول. اعتادت نهاد على الجلوس على حافة الشباك لتستمع إلى الأغاني التي فتنت بها من راديو أحد الجيران. بعض من هذه الأغاني التي طالما أحبت أن تغنيها في تلك الفترة المبكرة كانت أغاني ليلى مراد وأسمهان, المطربتان المصريتان المشهورتان في ذلك الوقت.
كانت تفعل ذلك أثناء الغسيل خلف البيت, أو العجن لتحضير المرقوق (الخبز الريفي في لبنان), أو أثناء مساعدة أمها في الصباح. في نفس الوقت, كان عليها الاعتناء بأختيها هدى وأمال وأخيها جوزيف, كونها الأكبر سناً. تعتبر المشاركة عنواناً للثقة. كان هذا ولا يزال مبدأً بين الفقراء. مرة بالأسبوع, كانت إحدى الجارات تدعو أولاد حداد للاستحمام, وتقوم بذلك بنفسها, وقبل أن يخلد الأطفال للنوم, كان لا بد للفتاة, ابنة عائلة حداد, أن تغني لهم أغنية أو اثنتين لنوم طيب وهانئ.
كانت نهاد معروفة بحبها الكبير للزهور. فقد كانت تمضي الكثير من وقتها بجمع الزهور البرية, تنسقها في باقات لتزيّن البيت بها. كانت تحبها لدرجة أن أمها اعتادت على مضايقتها بفكرة أنها ستزوجها إلى بستاني. كانت فتاة خجولة, تخجل من الآخرين حتى من الأصدقاء. في نفس الوقت كانت جدية, ومسؤولة في تعاملها. المرات الوحيدة التي كانت تتغلب فيها على الخجل, كانت في التجمعات, عندما يطلب منها أن تغني, إذ كانت معروفة بجمال صوتها منذ أيامها المبكرة.
حبها للزهور لم يكن ينافسه سوى حبها لجدتها التي كانت تعيش في ضيعة الدبيّة. كانت تمضي نهاد معظم عطلاتها الصيفية في بيت جدتها, تساعدها في أعمال البيت نهاراً, وتستمع إلى حكاياتها في الليل.
وفّر الأب بعضاً من دخله الضئيل من أجل تعليم أولاده. لذلك حظيت نهاد بفرصة الالتحاق بالمدرسة, وهناك استطاع صوتها أن يجذب الانتباه فوراً, بوصفه يتمتع بنوعية فريدة, حيث كان يمكنها تحويل الأناشيد العادية الوطنية إلى شيء مدهش بجماله. كانت تلميذة نجيبة, مع أنها كانت تكره الحساب كثيراً, لم تكن لتستوعب مفهوم جمع وطرح الأعداد, ناهيك عن ضربها, ويقال أنها لم تكن قادرة على حفظ جدول الضرب غيباً, حتى يومنا هذا.
في حفلة المدرسة عام 1946, سمعها أستاذ في المعهد الموسيقي اللبناني, الذي صرح بأنه حقق اكتشافاً. هذا الرجل, محمد فليفل (أحد الأخوين فليفل اللذين لحنا النشيد الوطني السوري), كان يبحث عن مواهب جديدة في ذلك الوقت في مدارس الأولاد لغناء الأناشيد الوطنية في الإذاعة اللبنانية المؤسسة حديثاً. لكن والد نهاد ,الذي ينتمي إلى بيئة محافظة, كان مستاءً من فكرة أن ابنته ستغني للعامة. لذلك رفض منح موافقته لفليفل في البداية, لكن هذا الأخير نجح في النهاية في إقناع السيد حداد بأن طمأنه أن نهاد سوف تشارك فقط في غناء الأغاني الوطنية وأنه, أي فليفل, سوف يتحمل نفقات تعليمها في المعهد الموسيقي. بعد الموافقة, طلب والد نهاد أن يرافقها أخوها جوزيف.
كان يرأس المعهد الموسيقي في ذلك الوقت وديع صبرا, ملحن النشيد الوطني اللبناني, والذي بدوره رفض تقاضي أي مبلغ من نهاد ومن بقية الطلاب المشار إليهم من قبل فليفل. فليفل الذي اعتنى بصوتها عناية أبوية, لإيمانه بذلك الصوت الذهبي المخبأ في حنايا حنجرة المغنية الصغيرة, فقد أوعز إليها بعدم تناول الطعام المبهّر, الحمضيات, أو أي شيء آخر يمكن أن يؤذي حبالها الصوتية. كما حذرها من غناء الطبقات العالية أو المقاطع التي تتطلب جهداً شديداً. بعد ذلك أكمل معروفه بأن ساعدها لأن تدخل المعهد الموسيقي الوطني. ربما كان أبرز ما ساهم به فليفل هو تعليم نهاد علم التجويد في القرآن الكريم, الذي يعتبر الأسلوب الأكثر رفعةً في تلاوة الآيات في الموروث العربي.
استمرت دراستها في المعهد الموسيقي مدة أربع سنوات. بعدئذ, ساعدها فليفل في المثول أمام لجنة مؤلفة من: حليم الرومي, خالد أبو النصر, نقولا المني وآخرين ممن عينوا لفحص الأصوات لصالح الإذاعة اللبنانية. لقد كان يوماً مصيرياً في
حياة نهاد, وقفت هناك بنوع ثيابها الأبدي الذي طالما فرضته على نفسها (بلوزة وتنورة) وبمصاحبة عود حليم الرومي, غنت "يا ديرتي" لأسمهان. ذهل حليم الرومي بصوتها لدرجة أنه توقف عن العزف في منتصف الأغنية. استمرت نهاد فغنت مطلع "يا زهرة في خيالي" لفريد الأطرش, ثم ما لبثت أن أحيطت بأعضاء اللجنة الذين هنؤوها بحرارة وأظهروا تقديرهم لصوتها الفريد.
الرومي, بشكل خاص, كان شديد الإعجاب بصوتها حيث وجد أنه شرقي أصيل وبنفس الوقت مرن كفاية لأن يحمّل النمط الغربي بشكل مثير للإعجاب. اختيرت كمغنية في جوقة الإذاعة في بيروت بعد الحصول على موافقة والديها ومدير الإذاعة اللبنانية السيد: فايز مكارم. في البداية عارض والدها فكرة ذهابها إلى الإذاعة. إذ تطلبت موافقته الكثير من الإقناع وبعض التدخل القاسي من قبل معارف مقربين, اشترط الأب أن ترافقها أمها أو أخوها جوزيف, أو ابن الجيران عند ذهابها إلى الإذاعة.
أمنيتي كانت أن أغني في الإذاعة, تتذكر فيروز. "أخبروني أنني سوف أتقاضى مبلغ 100 ليرة (21 دولار) في الشهر. كانت فرحتي لا توصف, لكن في نهاية الشهر لم أكن محظوظة كفاية لأن أشبع عيني برؤية الورقة من فئة المئة ليرة, بسبب خصم الضريبة (كانت تقبض 95 ليرة فقط بعد اقتطاع الضريبة). استغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى تمكنت من الحصول على ورقة
كاملة من فئة المئة ليرة". راتبها الأول أنفق في شراء حاجيات لها ولأشقائها, الذين أرادت أن تدللهم ولو قليلاً, وأن تعوض عليهم الحرمان المادي الذي عاشوه طوال حياتهم.
كانت هذه المرحلة هي فترة الممارسة والملاحظة بالنسبة لفيروز, درست عن كثب أسلوب العطاء الغنائي عند كل مغنٍ في الجوقة, وكان غالباً ما يحدث أن يتم استبدال مغنية تأخرت أو فشلت في الأداء, بفيروز. كانت تمتلك إحساساً فنياً عالياً وذاكرة حادة حيث أنها كانت تمتلك القدرة على حفظ أربع صفحات من الشعر عن ظهر قلب, خلال ساعتين, أو خمس صفحات منوّطة. مهمة نهاد في الجوقة دامت حوالي الشهرين, بعدها صارت تؤدي بشكل انفرادي.
sdvm pdhm hgsd]m tdv,. ;hlgm hgwpdm pdhm wovm tdv,. ;hlgm