بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت في عام 1945 تحركت أوروبا وأمريكا وحركَّت قوافل اليهود ودفعتهم صوب الأراضي الفلسطينية، وفي الوقت نفسه أخذ اليهود ـــ من كل أنحاء العالم ـــ يتدفقون إلى
فلسطين في موجات هادرة من كل حدب وصوب، وكان الانتداب البريطاني يمضي قدما ويبرّ بوعده في تنفيذ التعهد الذي قطعه على نفسه المستر بلفور وزير الخارجية البريطانية في عام 1917، وتعهد الوزير البريطاني المشؤوم بأن ينشئ وطنا (قوميا) ليهود العالم على أرض فلسطين.
وسط هذه الأحداث الجسام انتاب
الملك عبد العزيز - رحمه الله - ذعر وقلق على مصير
القدس الشريف والمسجد الأقصى، فبادر على عجل وكلَّف ابنه وولي عهده الأمير (الملك)
سعود ـــ رحمه الله ـــ القيام بزيارة تاريخية إلى
القدس الشريف؛ لاستجلاء المصير الذي ستؤول إليه المدينة المقدسة والمسجد الأقصى.
ومن ناحيته، كان
الملك سعود ـ يرحمه الله ـ متحمسا لهذه الزيارة، وراغبا في استكشاف بواطن الأمور، واستقبله الشعب الفلسطيني بكثير من الحفاوة والترحاب، ونصب له سرادقات النصر وأقام له الاحتفالات التي كانت لا تخلو من إلقاء الكلمات والقصائد الشعرية الحماسية، وفي أحد الاحتفالات تقدم إليه أحد الشعراء المفوهين وألقى بين يدي الأمير (الملك)
سعود قصيدة عصماء، وجاء في القصيدة ''بيت'' يساوي أبيات الشعر التي قيلت والتي ستقال عن فلسطين، قال الشاعر الملهم متسائلا:
المسجد الأقصى أجئت تزوره
أم جئت من قبل الضياع تُودّعُهُ؟!
ورغم أن هذا البيت مضى عليه الآن أكثر من نصف قرن، إلاّ أنه ما زال يبرق ويدق أجراس الخطر في رأس كل مواطن عربي ومسلم. ولا أدرى كيف كان الانطباع الذي أخذه
الملك سعود من هذه الزيارة، هل خالجه إحساس بأنه ـــ كما قال الشاعر ـــ جاء ليلقي نظرة الوداع على القدس، أم أنه عاد إلى المملكة وفي جعبته مشروع سياسي من شأنه أن يعيد
القدس ومسجدها الأقصى الذي باركنا حوله إلى أصحابهم الشرعيين؟ وما قرأناه في أدبيات الصراع العربي الإسرائيلي أن وزارة الخارجية السعودية اتصلت بالخارجية البريطانية فور عودة
الملك سعود من
القدس وطالبتها بالجلوس على مائدة المفاوضات لمناقشة القضية الفلسطينية، وبالذات مستقبل
القدس ومسجدها الأقصى، وحينما بدأت المفاوضات طلب
الملك عبد العزيز من الحكومة البريطانية حماية الشعب الفلسطيني، موضحا أن السياسة التي تنتهجها بريطانيا في
فلسطين لا تتفق مع الحق والعدل الدوليين. وإذا استعرضنا تسلسل الأحداث بعد ذلك نستشف أن
الملك سعود كان يحس بهول الكارثة؛ ولذلك تحركت المملكة العربية السعودية بقوة نحو إيقاف المد الصهيوني عند المدى الرهيب الذي بلغه على الأرض، ولذلك لاحظنا أن المفاوضات التي كانت تجريها المملكة مع بريطانيا كانت تركز على إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
وأمام الحرص السعودي استجابت الخارجية البريطانية وعقد مؤتمر لندن، لكن كانت الأحداث في الشرق الأوسط والعالم تمر بمنعطفات دقيقة وصعبة، ومكث السعوديون يتفاوضون مع بريطانيا حتى توصلوا إلى اتفاق تم بموجبه إيقاف الهجرة اليهودية إلى
فلسطين مقابل إيقاف الثورة الفلسطينية ضد الوجود البريطاني، لكن الدوائر الصهيونية اعتبرت أن إيقاف الهجرة اليهودية بمثابة إجهاض للمشروع الصهيوني وإلغاء لوعد بلفور، فمارسوا ضغوطهم على كل الأصعدة كي تتحلل بريطانيا من هذا الالتزام الذي انتزعه المفاوض السعودي من المفاوض البريطاني بقوة واقتدار.
ومن ناحية أخرى، قام
الملك عبد العزيز باتصالات مكثفة بملوك العرب يقترح تعاون الدول العربية ومجابهة الموقف متحدين للوصول لحل الأزمة، ولقد وجَّه
الملك عبد العزيز نداءً إلى الشعب الفلسطيني، جاء فيه: ''لقد تألمنا كثيرا للحالة السائدة في فلسطين، فنحن بالاتفاق مع إخواننا العرب والأمير عبد الله ندعوكم للإخلاد إلى السكينة حقنا للدماء، معتمدين على رغبة الحكومة البريطانية المعلنة لتحقيق العدل وثقوا إننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم''.
ومن جهتها، أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستوفد لجنة ملكية بريطانية إلى
فلسطين لدراسة جميع الأوضاع على الأرض للوصول إلى توصيات تحفظ حقوق الأطراف كافة. وفي خطوة استباقية تقدم
الملك عبد العزيز بمشروع سياسي ينهي جميع المشاكل على الأراضي الفلسطينية، وتضمن المشروع النقاط التالية:
أولا: إعلان عفو عام عن سائر الجرائم التي ارتكبت أثناء الإضراب والاضطرابات وإطلاق سراح المسجونين؛ لأن ذلك يساعد على جو جديد من الثقة والطمأنينة ويساعد على حل جميع المشاكل.
ثانيا: إيقاف هجرة اليهود؛ لأن كل سماح بهجرة جديدة سيجدد المخاوف ويقضي على الطمأنينة.
ثالثا: أن تسنّ الحكومة البريطانية نظاما لحماية الملكية الصغيرة، كما حدث في مصر؛ حتى تصان أملاك الضعفاء من الضياع.
رابعا: أن تحل مشكلة شكل الحكومة بالتفاهم مع أهل فلسطين. ولكن في مقابل المشروع السعودي قدمت اللجنة الملكية البريطانية تقريرا اقترحت فيه تقسيم
فلسطين بين الفلسطينيين واليهود، وحينما بلغ
الملك عبد العزيز ما ورد في تقرير اللجنة الملكية البريطانية أرسل مذكرة إلى الخارجية البريطانية أوضح فيها معارضته للتقسيم، وأكد فيها أن تسوية القضية الفلسطينية ستكون سببا مهما في بناء علاقات طبيعية بين المملكة العربية السعودية وبريطانيا، كما أكد
الملك عبد العزيز للتاج البريطاني أنه يتحمل مسؤولية خاصة تجاه العالمين العربي والإسلامي، وأن هذه المسؤولية تتطلب منه أن يدافع عن عرب فلسطين؛ حتى لا يصبحوا في نهاية الأمر ''أقلية ضعيفة في دولة يهودية مسيطرة...''.وهكذا قرأ
الملك عبد العزيز ما ستؤول إليه الأوضاع في
فلسطين قبل أكثر من 60 عاما، حيث أصبح الفلسطينيون اليوم ''أقلية ضعيفة في دولة يهودية مسيطرة''، ولو سمع العرب واستمع الفلسطينيون إلى توجيهات
الملك عبد العزيز لما أصبح ''الفلسطينيون أقلية في دولة يهودية مسيطرة!!''. وهكذا نستطيع القول إن زيارة
الملك سعود للقدس قبل 60 عاما ونيف كانت زيارة تستهدف إنقاذ
القدس ومسجدها الأقصى، ولكن قوى الشر ـــ من الشرق والغرب ـــ أبت إلاّ أن تجعل لبيت واحد من الشعر معنى صحيحا في معضلة من أعقد المعضلات التي واجهها العرب في تاريخهم الحديث.
hglg; su,] .hv hgr]s , hsjlu hgn fdj auv tdi kf,cm fqdhu tgs'dk hgr]s hsjlu jpj fqdhu whv auv su,] tgs'dk