( 193 ) مدار الأفكار
صقر قريش
يقول الشاعر العربي :
كنت صقرا قرشيا علما = ما على الصقر إذا لم يُرْمَس
إن تسل أين قبور العظما = فعلى الأفواه أو في الأنفس
يعد عبد الرحمن الداخل الملقب بصقر قريش من أعظم الأمويين والمؤسس للدولة الأموية في الأندلس بعد
زوالها في المشرق , فهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم , نشأ في بيت
الخلافة الأموي بدمشق، وعرف بالشجاعة والنجابة والذكاء, وبسمو الأخلاق والصبر والدهاء , وبأهليته
للقيادة وقهر الأعداء, وعند سقوط الدولة الأموية عام 750م وقيام الدولة العباسية على أنقاضها أشتد الطلب
في تعقب الأمويين والقضاء على بيت الإمارة، وقتل أبناء وأحفاد الأمراء، فهرب عبد الرحمن بن معاوية إلى
فلسطين حيث لحق به مولاه بدر طبقا لخطة سابقة,ثم قصد مصر وأفريقيا وقرر أن يذهب إلى الأندلس ليبدأ
في تأسيس دولته وعمره ( 19 ) سنة فقط، فراسل كل الأمويين ومحبي الدولة الأموية في كل مكان يعرض
عليهم فكرته, فوجد الترحيب من العرب والبربر لمعرفتهم بعدل الأمويين وإنصافهم، وبدأ يستعد لدخول
الأندلس , وفي ربيع الثاني سنة (138هـ، 755م) عبر بجيشه القوي ومن معه من القادة مضيق جبل طارق
إلى داخل الأندلس بهيبة وعظمة الفاتحين المنتصرين وانضم إليه أنصاره وأخضع كافة البلاد في طريقه
وزحف إلى اشبيلية واستولى عليها وبايعه أهلها، ثم نجح في دخول قرطبة العاصمة، بعد أن هزم جيش
يوسف بن عبد الرحمن الفهري في موقعة المسارة في العاشر من ذي الحجة سنة 138هـ ليسيطر على كافة
أرجاء الأندلس ,وعلى أثرها لُقّب بالداخل لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكمًا، ووفي عام 756م
نودي به أميرا لينتهي بذلك عصر الولاة بالأندلس ويبدأ عهد الدولة الأموية والتي امتدت من سنة
(138هـ 755 م إلى 316 هـ 928 ) ,ولقد واجهت عبد الرحمن الداخل صعوبات في تأسيس دولته
كأي دولة ناشئة، فتعرضت الدولة الأموية في الأندلس في عهده لعدد كبير من الثورات، تزيد على خمس
وعشرين ثورة تغلّب عليها جميعا , و يرجع السبب في ذلك إلى اهتمامه بإنشاء جيش قوي يكون قادرًا على
الجهاد، والاهتمام بالحضارة والعلم والعلماء، ، وفكره العسكري الذي تعلمه، إضافة إلى أخلاقه العالية؛ ولذلك
قال عنه المؤرخون: (لولا عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية ) , ويذكر بأن أبو جعفر
المنصور وهو ألد أعدائه كان جالسًا مع أصحابه مرةً فسألهم: أتدرون من هو صقر قريش؟ فقالوا له : هو
أنت. فقال لهم: لا.فعدّدوا له أسماء حتى ذكروا له معاوية وعبد الملك بن مروان من بني أمية, فقال أيضا:
لا, ثم أجابهم قائلا: ( بل هو عبد الرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفردًا بنفسه، مؤيّدًا برأيه، مستصحبًا
لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلدًا أعجميًا فمصّر الأمصار وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد
انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه) , ومما قال عنه ابن حيّان الأندلسي، مستعرضًا بعضًا من صفاته: ( كان
عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من
العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدّة، قليل
الطمأنينة، بليغًا مفوّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًا، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة من وليّه وعدوّه، وكان
يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس الجمع والأعياد إذا كان حاضرًا، ويخطب على المنبر، ويعود
المرضى) , فعبد الرحمن بن معاوية حقق غايته من إعادة أمجاد أجداده الأمويين والانتصار على العباسيين
وتكوين دولة قوية هي الدولة الأموية ذات المجد التليد وقد عاش حياته كلها مجاهدًا، وتُوُفِّي رحمه الله
بقرطبة، ودفن بها في 24 ربيع الآخر سنة 172هـ الموافق 30 سبتمبر عام 788م , جزاه الله عن أمة
الإسلام خير الجزاء فقد كان شخصية تُشخِص الأبصار وتبهر العقول، فمع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا
ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه ، ومع شدته وحزمه وجهاده وقوته
كان شاعرًا محسنًا رقيقًا مرهف المشاعر.
يا صقر يا محلّق بجنحان الأمجاد = يا مخلّد ٍ للحزم والعزم تخليد
عمرك قضى مابين صولات وجهاد= وبالأندلس وحدّت الأركان توحيد
في قوتك حتى معــاديك بك شاد = يا نادر ِ تشـهد لك المدن والبيد
لك يرجح الميزان بين أمة الضاد=وعسى مقرك جنة الخلد تحديد