يظن بعض الناس أن النّسيان مرض عضال يؤرق مضجعهم، ويشكل لهم إزعاجاً كبيرا في حياتهم اليومية ولا يكادون يجدون علاجاً فعّالا للقضاء عليه، في حين أن هناك صنفًا يحبذ النّسيان ويعتبره نعمة أسبغها وأغدقها الله على عباده، لمَا فيه من المزايا والمحاسن العديدة، فهو يتيح إمكانية فقدان الذكريات السيئة والمفجعة التي تمرّ على حياتهم، فبدونه تظل المعاناة والمأساة قائمة ولا تنتهي إلا بانقضاء حياتهم من هذه البسيطة التي يحيون فيها.
هناك من يُضيّع مفتاح سيارته أو منزله وينسى أين وضعه، حيث يقضي سحابة يومه في البحث عنه كالأهوج، ولن يجده إلا بشق الأنفس رغم أنه قد وضعه في أحد جيوب بزّته أو بنطاله، ويصبح وقتها يشك في قدرة ذاكرته على استذكار الأشياء.
هناك من ينسى بما تعشّى البارحة، ويلبث طويلاً في امتحان ذاكرته الميّتة من أجل العثور على عشائه وحين يتذكر يجد نفسه أنه لم يتعشّى أصلاً، وهناك من يأتيه نسيانٌ كلّي لاسيما عندما يتحصّل على وظيفة حكومية مناسبة، فينسى أصدقاءه ورفقاءه الذين قضى معهم أزهى فترات طفولته، وحين يلاقيهم صدفة يتصرف كأنه لم يعرفهم البتّة.
هناك من نسيت زوجها حينما كان يُنفق عليها بكرمٍ حاتمي رغم أنه لم يجعلها يوماً في مسيس لأدنى حاجةٍ أو شيء، وما إن تعرّض بَعْلها لأزمة مالية مباغتة حتى انقلبت عليه انقلابًا مفاجئًا، كأنها لم تر منه إلا الويل والعوز.
وثمّة من يسمح في زوجته التي ضحّت وصبرت معه في أيامه النّحيسة والتعيسة ، ولمّا ترقّع اجتماعيًا وترقى طبقيا وابتسم له السّعد والحظ، بدّلها بين غُدوة وعشيّة بواحدة أخرى كي ينسى معيشة الضّنك التي قضاها مع الأولى.
وهناك من يأتيك كطفلٍ وديع وكيّس خاصةً عندما يرغب في أخذ حاجته منك، وعندما ينال مبتغاه ومنتهاه يصاب فجأة بالنّسيان وتتلف ذاكرته الحيّة والميّتة، كأنه لم يلجأ إليك يومًا قط، فيتحول من ذلك الطفل الظريف إلى شخصٍ سمجٍ ووقح.
بعض الأحزاب السياسية تسطّر برنامجها الانتخابي بوعودٍ تُسيل لعاب المنتخِبين، وحين تعتلي هذه الأحزاب سُدّة القرار سرعان ما تنسى أولئك الذين صوّتوا لها، كأن النسيان في نظرهم هو أفضل وأرقى انتقام كما قال جيكوس مارتن، ويكتشف الناس في وقتٍ متأخر أن وعود هذه الأحزاب كانت كوعود عُرْقوب في الجاهلية.
حين نتخاصمُ مع صديق قريب يشيرون علينا بنصيحة مفادها أن نجعله في طيّ النّسيان والذي يحجبك بخيط، احجبه أنتَ بحائطٍ أو سور، ولا يعلم هؤلاء النّاصحين أننا قضينا مع هذا الشخص أجمل اللحظات والأيام ومن الاستحالة بمكان أن ننساه، فالنّسيان ليس رحمةً أو نِعمة تَقينا من الجفاء والنكران فهو شرٌ مبين في هكذا أحيان.
ومهما يكن من أمر فإن ثقافة النّسيان أو بالأحرى تفاهة النّسيان، صارت مستشرية بضخامة ليس فقط عند الناس الذين بلغوا من الكبر عُتيّاً، لكن أصبح فقدان الذاكرة مرضٌ ذارع حتّى في أوساط الذين يتمتعون بصحة جيدة، إنه داءٌ لاينفع معه دواء سوى الاتصاف بثقافة التذكّر والاستذكار، فلقد سئمنا من الادعاء بأننا مصابون بهذا المرض، فالإنسان ميّال فقط إلى تذكر حقوقه في حين أن واجباته ينساها على حد قول المهاتما غاندي.