1990
حار المؤرخون المعاصرون في أمر الأنباط، وطرق التجارة المبكرة التي ابتدعوها من خلال قوافلهم التجارية المنظمة، ومنذ تاريخ منشئهم في مدائن الحجر بشمال غربي الجزيرة العربية، حيث منطقة العلا، خاصة أنهم قوم تقليديون، لم يمتازوا بموقع اجتماعي خاص، لكنهم بعد استئناس إبلهم وإكثار قوافلهم، طوروا طرقاً جعلوها مع الزمن مزدهرة وممتدة، قامت على إثرها أنظمة الري في الصحراء العربية، وفُتحت بعدها طرق جديدة، تأثرت بها حتى الأمم الأخرى، ولقرون عدة، ليزدادوا ثراءً، وينقلوا عاصمتهم من مدائن الحجر إلى البتراء، وبنائها بنفس الأسلوب، واتخاذها عاصمة تجارية لهم، فما حكاية التجار الأنباط الذين تجاوزوا طرقات القوافل من البر إلى خطوط عالمية واسعة عبر الزمن؟
ممالك ومراكز منتعشة
كان تاريخاً مبكراً لقبائل شمال الجزيرة العربية «الأنباط»، كعرب تمارس التجارة، حيث بدأت منذ عام 1900 قبل الميلاد تحديداً، لتدير قوافل الإبل في المناطق الداخلية لجزيرة العرب (المملكة العربية السعودية)، فعملوا حينها كتجار، ربطوا بينهم وبين بلاد ما بين النهرين، لتصبح التجارة مشتركة ومنتعشة، وخلال هذه الفترة، أنشأ الأنباط مستعمرات صغيرة هنا وهناك، وطرقاً مختلفة، ومراكز تجارية عدة ومنتعشة، بدأت تكبر في المسار الممتد بين شبه جزيرة العرب وبلاد ما بين النهرين والشام، قامت على إثرها وبين طرق القوافل ممالك عربية جديدة، كمملكة «ديدان»، ومملكة «لحيان»، اللتين اتخذتا من مكانهما مركزاً للقوافل، وانطلاقاً تجارياً نحو بصيرا (قرية أردنية حالياً)، ومركز آخر نحو مملكة «أدوم»، الواقعة بين جنوبي فلسطين وخليج العقبة، وينسب إليها (الأدوميون)، حيث كانت هذه القوافل تنقل البضائع من جنوبي جزيرة العرب أي اليمن إلى أرض أدوم، ومن أدوم إلى الشمال، حيث دمشق أو إلى الغرب، حيث مصر، وطريق آخر إلى جنوب الجزيرة العربية، حيث عُمان، وهناك طريق الساحل الشرقي، حيث يتم نقل البضائع من خلال قبائل «جُرهم» إلى بلاد النهرين، حيث بابل، لتنضم إلى طريق الحرير، وكذلك السفر من دمشق إلى فينيقيا فالبحر المتوسط.. كل ذلك من خلال الأنباط، وعاصمتيهم الأولى والثانية.
طرق البحر
المتتبع لسيرة الأنباط، يجدهم، وبدلائل، قد توسعوا في طرق القوافل البرية، ولكن هل من دليل على استخدامهم الطرق البحرية؟ أو ركوبهم السفن والقوارب في البحر الأحمر أو البحر المتوسط أو الخليج، أو حتى من ميناء غزة القريب من عاصمتهم؟ هذا السؤال يجيب عنه المؤرخ ديودورس، حيث يؤكد أن جزءاً من الأنباط احتلوا الساحل البحري، وجعلوا مجاورة البحر طريقاً للقرصنة، ولم يستطيعوا أن يديروا الماء، كما كانت إدارتهم مع الطرق البرية، لكن هؤلاء كانوا جزءاً من الأنباط، وليس جميعهم، كما تم إنهاء تلك القرصنة بالقانون من قبل ملوك الإسكندرية، من أجل الحفاظ على تجارة البحر.
نعود للطرقات البرية التي نافس فيها الأنباطَ قبائلُ أخرى من التجار على تجارة البخور، لكن، وبوجود ثلاث ممالك في جنوبي جزيرة العرب، واجهتهم مملكتان، لم تسمحا لهم بنقل البخور، وخاصة عن طريق السفن، خوفاً من ضرب تجارة «اللبان»، التي تكمن بينهم وبين الساحل، ليتم الاتفاق بينهم في ما بعد، بنقلهم البخور إلى السفن مقابل نقل «اللبان» إلى داخل الجزيرة العربية، حيث العلا، عاصمة الإمبراطورية النبطية النامية حينها، ثم إلى مصر ودمشق وبلاد النهرين واليونان وروما، ليصل «اللبان» إلى هناك.
تجارة برية وبحرية
حين أخذت التجارة النبطية طريقها لآسيا، أخذت السيطرة امتدادها في الطرق البرية والبحرية، وبالتالي، إلى طريق الحرير وطريق «اللبان»، وطرق التجارة البحرية مع الهند وسريلانكا.. ليتساءل البعض حينها، كيف ظهر الأنباط بهذا الشكل فجأة، قوةً اقتصاديةً عالمية؟ فكونوا هذه الصورة والثروة الهائلة التي صاحبها بذخ وشرف وتاج ومملكة؟ خاصة أنه في هذه الفترة، فكر الأنباط بنقل عاصمتهم الأولى من العلا إلى البتراء، كعاصمة تجارية.
القوة الرومانية
تمر السنوات والعقود، ويقوى الرومان، بين سنتي 30 و20 قبل الميلاد، وخلال حملتهم على اليمن لاكتشاف مصدر اللبان، وهزيمتهم الممالك العربية هناك، لم يستطع الأنباط الدفاع عن أنفسهم ولا خداع الجيش، وبعد قرن من الزمن، أي في عام 106 للميلاد، كانت الإمبراطورية الرومانية قد اكتسبت المزيد من القوة، بضمها إمبراطورية الأنباط، وتحول أمراؤها إلى ضعاف، لا يودون سوى الحصول على حظوة الرومان ونياشينهم ورضاهم، حتى لا ينتزعوا منهم ما تبقى لهم من طرق تجارية في شرق آسيا.
نحو آسيا
وعلى الرغم من أن هناك القليل من الأبحاث التي تربط الأنباط مباشرة بالهند والصين والطرق البحرية، لكن كانت تجارة اللبان شغلهم الشاغل حينها، أما الطريق البحري إلى الهند وسيلان وجزيرة ياقوت، أو مباشرة إلى مليبار، فكان الإبحار من مسقط، حيث تتجمع السفن فيها قبل الانطلاق، إضافة إلى السفن التي تنطلق من سومطرة وجاوة، لتتحرك إلى الصين عبر ملقا، ومنها إلى كانتون وهانوي، ويستخدم تجار الشرق الأوسط هناك، إما مضيق ملقا أو مضيق سوندا، في رحلاتهم التجارية.
أما في التجارة البحرية الخليجية فيبقى تجار البحر من أصول نبطية، حتى أتى الإسلام وانتشر، لذا، نستطيع أن نقول إنه لم تنشأ قوة بحرية عربية قبل مجيء الإسلام، سوى من الأنباط.
استئناس الإبل في جزيرة العرب
في واحدة من أكبر صحارى العالم «جزيرة العرب»، تم استئناس الإبل منذ 1000 عام قبل الميلاد، في ظل الظروف الصحراوية الصعبة التي لم تكن تدعمهم للوصول إلى الطرق التجارية طويلة المدى، والعبور إلى حضارات الشرق الأوسط القديم، ما منح الأنباط وسيلة للسفر مسافات طويلة عبر الصحراء الأكثر جفافاً، والتكيف مع نمط حياة جديد، وبالتالي، نمو الري والزراعة، وكذلك الأفكار والإحساس بقوة الهوية الخاصة، مع ما لحق هذه الطرق الجديدة من الدفاع عن المصالح والشرف ضد القادم ذي النيات السيئة.
آثار نبطية في الشارقة
كان للقوافل صدى ثقافي بالجزيرة العربية، من العلا إلى مليحة وجبل بحيص بالشارقة، خاصة بعد عرض القطع الأثرية المكتشفة فيها بمتحف الشارقة للآثار، التي تعكس أوجه الشبه بينها وبين المواقع الأخرى في أسلوب الحياة وجمال التواصل بين أبنائها، كالكتابات باللغة العربية (النبطية)، التي توضح الفكر الديني السائد قبل الإسلام، والدلالات التجارية والاجتماعية القديمة المشابهة لحضارة تيماء، التي نظمت التجارة بين بلاد الرافدين والشام والنيل، وحضارة العلا، المتصلة بالهند وجنوب الجزيرة والحبشة، وحضارة نجران، نقطة العبور بين جنوب وشمال الجزيرة.
ازدهار الطرق ووسائل النقل
تطورت القوافل إلى شبكة طرق حديثة، وبقيت على أهميتها بين مدن العالم، والتي أصبحت سلسلة من الممرات والتوقفات المستخدمة لنقل البضائع، مثل السكك الحديدية، وطرق السيارات والشاحنات السريعة، عبر مسافات واسعة، لتلعب الدور الحاسم في اقتصاد البلدان الصناعية، بما أدى إلى ازدهار شركات النقل بالشاحنات البرية والنقل البحري عبر الموانئ، وافتتاح قنوات، وخلق ممرات مائية وخطوط تنقل النفط والغاز إلى المصافي، فضلاً عن الطرق الجوية التجارية، وغدت التجارة حرة وواضحة، وذلك ملخص الرحلة منذ استئناس الجِمال، وصولاً إلى المعاهدات التجارية العالمية.
توسّعات وأرباح
لطالما راودنا شعور غامض عن البضائع والسلع التي كانت تحملها القوافل البرية للأنباط منذ بداياتهم، وخاصة أننا نقرأ عن التوسعات والأرباح التي مروا بها منذ بداياتهم، لنجد أنه عند دراسة اقتصاد الإمبراطورية النبطية، من خلال القوافل التي ابتدعتها وأدارتها وتوسعت بها، فمصادرهم من هذا الدخل الكبير والمتوسع، وعلى حد سواء، الداخلة والخارجة من تلك السلع، أي من الإيرادات والمستوردات، كان في مقدمها الخيول، نظراً لأهميتها لدى القدماء، فقاموا بتربيتها، وليس مستبعداً أنهم قاموا بتصدير الحصان العربي إلى روما، على الرغم من أن الجيش الروماني لم يكن يستخدم الخيول النبطية، بقدر ما كان ذلك في السيرك وحلبات السباق، أو الاستخدام الفردي للأثرياء.
لكن الأنباط، كما يقول المؤرخ اليوناني الصقلي ديودورس، سيطروا في تجارتهم على المادة العازلة «البيتومين»، أو ما يُعرف بالقار، عالمياً، واستخدمت هذه المادة في الأسطح والشوارع في روما، وفي التحنيط في مصر، لأهميتها القصوى، كما أكد أن الأنباط سيطروا على تجارة الخرفان والأغنام الواسعة، بجانب الفخار الفريد من نوعه ذي الجودة العالية، وكذلك التعدين، حيث تم استخراج النحاس من الجانب الشرقي من وادي عربة، ليتم تصديره.
هذا، وقد تضمنت التجارة النبطية في الجزيرة العربية، الكثير من التوابل والبخور والسلع الفاخرة، وقائمة السلع القديمة التجارية والمحتكرة، كان يتم فحصها في البنود التجارية النبطية، لتعبر الصحارى والأنهار والبحار والموانئ نحو آسيا وأوروبا، قاطعة آلاف الأميال، والعودة من جديد، لتتراكم لدى الأنباط ثروة كبيرة، بفضل طرق التجارة من طرق القوافل الأولى بمراكزها الجديدة.
مصدر آخر تم اعتماده، وهو كتاب «العرب في العصور القديمة»، للمؤلف عبد الوهاب يحيى، الصادر عن دار «المعرفة الجامعية» في الإسكندرية عام 1990، كمدخل حضاري في تاريخ العرب قبل الإسلام.
2004
مثّل كتاب «الأنباط» للمؤلف دان جيبسون الصادر عام 2004، أهم مصدر تم الاطلاع عليه لسبر أغوار الأنباط كشعب اقتصادي تقليدي قديم، بنى إمبراطورية ثرية.
2014
تمت الاستعانة كذلك بكتاب «الاقتصاد السياسي العالمي» للبروفيسور آن كابلينج، ود. سيلك ترومر، الصادر في 2014، والذي يستعرض الاقتصادات الأسرع نمواً ودورها في إدارة العالم.
hgHkfJh'>> pqhvm rhlj ugn ]v,f hgr,htg