( 189 ) مدار الأفكار
طوق العقوق
يقول الشاعر :
جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً=كَأَنَّك أَنْتَ الْمُنْعِـمُ الْمُتَفَضِّـلُ
فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِـي =فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ
في إحدى الصحف المحلية نشر قبيل فترة خبرا عن مأساة سيدة مسنة لا تحمل أية
أوراق ثبوتية تدل على هويتها , ولا يعرف لها أسما أو عنوانا , وقد أدخلت مستشفى الجهراء
بمعرفة رجال إحدى الدوريات عند العثور عليها شبه فاقدة للوعي , ولم تجد من يسأل عنها منذ ستة
أشهر حيث ألقيت على قارعة الطريق , و تخلى عنها ذووها , ولفظت من قبل أسرتها في آخر أيام
عمرها , وفي وقت اشتدت فيه حاجتها إلى مزيد من الرعاية والعناية , ورغم أن الإسلام وهو دين
الرحمة والوفاء والبرِّ , قد أوصى بالآباء خيرًا ونهى عن قطيعتهم و قرن برهما والإحسان إليهما
بالتوحيد فقال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ
كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (الإسراء:23) , إلا أن ظاهرة عقوق
الوالدين قد انتشرت - وللأسف الشديد – في هذا العصر بين كثير من أبناء المسلمين وتعددت صورها
وأشكالها , وهي كما يقول الشيخ خالد الشارخ : (نذير شؤم، وعلامة ضياع وخذلان , وعنوان خسارة
) ، والعقوق كما يعرّفه أرباب اللغة هو ضد البر، قال ابن منظور - رحمه الله - : ( وعق والده يعقه
عقا وعقوقا ومعقة: شق عصا طاعته، وعق والديه: قطعهما ولم يصل رحمه منهما " وقال: " وفي
الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن عقوق الأمهات وهو ضد البر، وأصله من العق: الشق
والقطع ) , و يقول العلامة ابن حجر رحمه الله: ( العقوق أن يحصل لهما أو لأحدهما أذىً ليس بالهيِّن
عُرفًا ) , ويكون الإيذاء بفعل أو بقول أو إشارة، ومن مظاهره مخالفة أمر الوالدين أو أحدهما في غير
معصية، أو ارتكاب ما نهيا عنه ما لم يكن طاعة، أو سبهما وضربها، ومنعهما ما يحتاجانه مع القدرة
وغير ذلك , ويعد عقوق الوالدين من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، قال تعالى: ( قل تعالوا أتل ما حرم
ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ) , ( الأنعام: 151) , و قال تعالى: (واعبدوا الله ولا
تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ) ,( النساء : 36 ) , عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ , وَمَنْعًا وَهَاتِ ,
وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ : وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ ) , و عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا ؟ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ
وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ , وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ , فَمَا زَالَ ُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا
لَيْتَهُ سَكَتَ) , وَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
( الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ , وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ , وَقَتْلُ النَّفْسِ , وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ ) , و عَنْ أَنَسٍ رضي الله
عنه قَالَ : ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَبَائِرَ فَقَالَ : ( الشِّرْكُ بِاَللَّهِ , وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ) , وعَنْ
ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ , وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ , وَالْمَنَّانُ عَطَاءَهُ . وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ,
وَالدَّيُّوثُ , وَالرَّجِلَةُ مِنْ النِّسَاءِ ) ,فالعقوق محرم قطعًا , مذموم عقلا و شرعًا , كما إن العاق متوعد
بعقوق أولاده له؛ فكل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإنه يعجل
لصاحبه في الحياة قبل الممات. , ويقول الأصمعي: ( حدثني رجل من الأعراب قال: خرجت من الحي
أطلب أعقَّ الناس، وأبرَّ الناس، فكنت أطوف بالأحياء حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو لا
تطيقه الإبل في الهاجرة والحرِّ الشديد، وخلفه شاب في يده رشاء (أي حبل) ملوي يضربه به، قد شق
ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتى
تضربه؟ قال: إنه مع هذا أبي. فقلت: فلا جزاك الله خيرًا. قال: اسكت فهكذا كان هو يصنع بأبيه ) ,
فسبحان العادل الذي قيض له ولد عاق يسقيه من ذات الكأس , والجزاء من جنس العمل ,
قال تعالى : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ), ( فصلت:46), وبر الوالدين من محاسن الشريعة الإسلامية؛
فهواعتراف بالجميل، وحفظ للفضل، وعنوان على كمال الشريعة، وإحاطتها بكافة الحقوق.
يا متبع بين الورى لأمـر مـولاكع=لى مسار النـور حـدد مماشيـك
أخفض جناح الذل رحمـة بدنيـاك=لأمك وأبوك اللي قضى العمر يرجيك
عبد العزيز الفدغوش