الترقيم وبعض المفاهيم
يوحي العنوان إلى عدة أفكار،
ويستدعي العقل العديد من المواقف المختلفة،
فيسرع العقل ليتصفح هذه المقالة ليرى أي من تلك الأفكار والمواقف التي يذهب إليها صاحب هذه المقالة.
وحتى لا أطيل عليكم، ويزيد إلحاح العقل بسؤاله، سوف أوضح أبعاد هذه المقالة وأحدد ما أعنيه فيها من موضوعات.
الترقيم هنا المقصود به هو تحويل الأفكار والمعلومات والمعارف إلى أرقام، وترتيب بعض البيانات أو الفقرات بواسطة الأرقام، وسوف نمر على اختلاف الثقافات وطرق الاستفادة من الترقيم لديها، هذا هو المقصود في مصطلح الترقيم المذكور بعنوان المقالة. تحويل الكيف إلى كم بالإضافة إلى ترقيمه؛ حقاً أن الترقيم له عدة مفاهيم تختلف باختلاف الثقافات، والعلوم، والأفكار التي يتناولها الترقيم نفسه، أو تخدمه عملية الترقيم نفسها، حتى أصبح لدينا لغات رقمية، وشفرات سرية وغير سرية لكثير من الموضوعات الكلية والجزئية. تلك هي لمحات فكرية مرت علّي وقمت بترجمتها إلى هذه المقالة.
منذ العصور السحيقة تم التعرف على الأعداد ولعل تحديد الأرقام وفائدتها كان واضحا في عصر فيثاغورث، وما تلاه من عصور حتى عصرنا الحاضر. إلا أن يعتبر اختراع (الصفر) إضافة حديثة للأرقام الطبيعية، وسلسلة الأرقام الطبيعية المقصود بها (1 ، 2 ، 3 ، 4، 5 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9 ) . وكانت الفائدة واضحة من إدخال الأرقام على الكثير من المفاهيم مما سهلت الكثير من الأمور خصوصا التجارية والعسكرية. وأمور الحياة المختلفة مثل تقسيم السنة لأيام وأشهر وفصول ومواسم وغيرها.
أخذ مفهوم الترقيم بالتطور، فبدأ يستخدم بوظيفة جديدة وهي الترتيب، أي ترتيب الأشياء والأفكار والموضوعات وحتى البشر...الخ. والترتيب يعني وضع كل شيء في رتبه (مرتبه) معينه. وكان الهدف من ذلك كله تمييز الأشياء( سواء المحسوسة أو غير المحسوسة) عن بعضها، ووضعها في رتب وفئات مختلفة ليسهل التعامل معها وتناولها في مختلف الأغراض التي وضعت له. ولعل الأمثلة كثيرة في هذا الصدد وأن هذا المفهوم لازال مستخدم حتى يومنا هذا في مختلف نواحي الحياة وعند مختلف البشر.
وتطور مفهوم الترقيم ليأخذ معنى آخر وهو التسلسل، أي ترقيم الأشياء (سواء كانت وضعية أو عقلية) بطريقة ما تجعلها كالسلسة المتتابعة؛ لاجتماع صفات أو خصائص تجمع بين تلك الأشياء ووضعت في حلقة معينة ضمن تلك السلسلة، وحتى يكون الأشياء أكثر وضوحا للقارئ والكاتب معاً، وعند وضع الأفكار في سلسلة مثلا كتاب يقسم لفصول (الأول- الثاني- الثالث ..الخ) وكل فصل يحتوي على عدة أبواب أو غيرها من الأسماء التي تجعل من العمل أسهل للكاتب والقارئ. كذلك وُضع البشر في سلسلة، مثلا في وحدات الجيش في الدول العربية نجد أن كل فرد من أفراد الجيش يحمل رقم ويعود هذا الرقم لسلسة طويلة عريضة، حيث لو ذكر الجندي رقمه العسكري من السهل للأفراد الآخرين معرفة مكان عمله والوحدة التي هو تابع لها. كما هو الرقم المدني أو الرقم الوطني أو الرقم القومي أو الرقم الموحد على حسب اختلاف التسمية في الدول العربية، وكذلك أرقام حسابات البنوك، كما هو الحال في أرقام الهواتف فإذا ذكرت بداية رقم هاتفك النقال يعرف أهل البلد أن هذا الرقم ينتمي لشركة معينة من الشركات المحلية، وإن ذكرت فتح الخط الدولي عُرف البلد الذي ينتمي إليها هاتفك. وغيرها من الاستخدامات.
ثم وصل الترقيم إلى مرحلة أكثر رقي وهي التصنيف، وهو مفهوم ليس غريب بل أنه متداول ومستخدم، وهو يقوم على وضع الأشياء المتشابهة بصفات معينة أو بعض الخواص في فئات معينة وتحت أجناس أو أنواع أعم. وهذا واضحا جدا في تصنيف الكتب في المكتبات، وتصنيف الأشياء في الأسواق حسب نوع المنتج، وتصنيف البشر في الوظائف الإدارية وغيرها من تلك الاستخدامات المختلفة. حتى تصنيف الطلاب في المدارس في فصول أو مراحل تعليمية وغيرها.
وإن كانت الأشكال السابقة معروفة لدى العرب منذ قديم الزمان، سواء العد أو الترتيب، أو التسلسل أو التصنيف، وخصوصا البدو، وكانت معرفتهم تلك الأشكال من الترقيم لحاجة عملية، وهي لمعرفة أنواع الماشية التي يملكونها وأعدادها، وتمييزها عن غيرها من ماشية الآخرين من الناس بوضع علامة أو رمز عليها وهو ما يسمى (الوسم) وكانت كل قبيلة أو جزء منها له (وسم) خاص بها لتمييز ماشيتهم عن غيرها. إلا أن تطور الحياة أدى إلى تطور مفهوم هذه العملية وتعددت واختلفت استخداماتها.
وفي أثناء الحروب تم استخدام الأرقام لتكون لغة أو شفرة بين الجند وقيادتهم ولتحديد المواقع وإحداثياتها، وغيرها من الأمور العسكرية التي يتم الاتفاق عليها مسبقاً بين الطرفين، حتى تسهل عملية التعامل بينهم في إصدار وتلقي الأوامر والأخبار والمعلومات بينهم، هذه كانت بداية اللغة الرقمية. تلك العلمية كان لها الأثر الكبير على العلم والمعرفة في أوروبا وغيرها من البلدان، التي استشعرت أهمية اللغة الرقمية في حياة الشعوب وما تحمله من سرية وسرعة وصول المعلومة عبر وسائل نقل المعلومات الحديثة.
يقول أبو الفلسفة الحديثة، الفيلسوف الفرنسي "رينيه ديكارت" أعطني الواحد والصفر، وسوف أعطيك لغة كاملة"، قد سمعت هذه المقولة منذ زمن وكان تأثيرها عند سماعي لها نوعا من أنواع السخرية، فقلت في نفسي ما هي الثقة التي يملكها هذا الشخص ليصنع لغة كاملة من رقمين بسيطين؟ ، وكنت معتقدا بعدم مقدرته على هذا العمل الجبار.
استمرت هذه الأفكار معي منذ زمن حتى كتب الله لي وتعرفت على مادة في كلية العلوم تسمى "ديجتال" وهي مادة مشهورة في كلية العلوم وكذلك كلية الهندسة وهي تتعلق "بالتكنولوجيا" وتعتمد على تحويل الكلمات والحروف إلى أرقام، والأرقام المستخدمة في هذه اللغة هي الصفر والواحد، وهي اللغة التي يعتمد عليها (الحاسب الآلي) قديما في البرمجة، فذهلت بجهود هذا الفيلسوف الفرنسي الجبارة وأفكاره التي سبقت جيله بزمن ليس بسيط. ومع ازدياد اهتمامي بالحاسب الآلي الشخصي وخصوصا لغات البرمجة وجدت أن اللغة الرقمية هذه هي صميم عمل الإلكترونيات الرقمية من أصغرها إلى أكبرها، بداية من (الآلة الحاسبة) وصولا إلى الطائرة التي تطير بلا طيار.
وفي ذات يوم سألت نفسي، ما هو الأساس التي تقوم عليه هذه اللغات الرقمية؟، فازداد إلحاح هذا السؤال حتى أجبرني أن أتوجه إلى قسم الرياضيات في كلية العلوم، وكان هناك دكتور عبقري في تخصصه كان يُدرس لي مادة رياضية تخصصية وهو أستاذي (أ.د. إسماعيل تقي) فطرحت عليه السؤال، فقال لي هناك قواعد ونظم محكمة ومحددة على أساسها يتم كتابة البرامج الرقمية التي تحرك الحاسب الآلي، وأنصحك أن تحضر محاضرات لغات البرمجة. وكانت تلك الأيام تُدرس لغات البرمجة في جامعة الكويت إلا أنها لغات بسيطة تسمى (البيسك)، و (فوتران) وغيرها من لغات البرمجة البسيطة. وفعلاً استفدت الكثير من تلك المحاضرات الجميلة، وعرفت كيفية تأسيس بعض البرامج البسيطة خصوصا في لغة (بيسك).
أخذ هذه الأسئلة إجازة من فكري تقريبا خمس سنوات من الزمن وعادت من جديد بإلحاح شديد عندما تعمقت في المنطق الرمزي، والمنطق الرياضي (لوجستيقا)، ووقفت على الكثير من الحقائق والمفاهيم المهمة، والتي منها أن الرياضيات والمنطق لا يوجد بينهم فواصل، وان الرياضيات تتداخل مع المنطق في الكثير من الموضوعات، استفاد من هذا التداخل والتواصل بين المنطق والرياضيات دارسي الحاسب الآلي ليأخذوا من المنطق قواعد تأسيس البرامج وصياغتها، واستفادوا من الرياضيات بترقيم المعلومات والمعارف في أوامر معينة لتطوير لغات البرمجة، فوجدت نفسي أدور حول إجابة سؤالي القديم وكأنني أجمع مصادري لأجيب عن ذلك السؤال.
وعند شروعي في جمع مادة علمية لإعداد بحث علمي محكّم أجد أنني أقترب من سؤالي لأجيب عليه، حتى التقيت أحد الأشخاص الثقات، فطرحت عليه السؤال لأنه صاحب تخصص دقيق في صياغة البرامج، فقال لي مبتسماً أن من أصعب المواد على صائغ البرامج هي (الأنساق المنطقية)، وفيها من التعقيد ما يكفي لتعقيد جيل بأكمله، فبدأ يسرد لي الأسس والقواعد المنطقية التي يقوم عليها بناء البرامج، وتلك القواعد المنطقية المهمة في بناء البرامج هي نفسها قواعد المنطق التي قمت بتدريسها لأكثر من عشر سنوات مضت، فكأنه يشرح لي المنطق، فقاطعته رغم أنه لا يحب المقاطعة، فقلت هل لديكم في دراستكم كتب أو ملخصات لهذه المواد التي تدرسونها؟، فقال نعم وسوف أوافيك فيها.
رحلة جميلة فيها الكثير من الغرابة والطرافة، ارتبط فيها معنى الرقم بالقاعدة المنطقية فنتج عنها مفاهيم كثيرة من العدد والترقيم وتعددت أشكاله واختلفت أنواعه، ومن خلال ثقافات كثيرة تعددت استخداماته حتى أصبح الترقيم أساسا من أسس "التكنولوجيا" الحديثة تحت مسمى "النظم الخبيرة".
هذه مقالة سريعة حاولت توضيح العلاقة بين الرياضيات المنطق، وعلاقة الترقيم في بعض المفاهيم، ولو أمعن النظر القارئ لوجد شواهد كثيرة على أهمية الترقيم في حياتنا اليومية، ولضحك كثيرا لمدلول هذه الكلمة، وسوء استعمال مفهومها في المجتمع الخليجي، حتى أنها أصبحت كلمة ذات سمعة سيئة عند الكثيرين من أفراد المجتمع الخليجي.
أخيرا: لي عودة في مقالة جديدة عن أرقام السيارات في الوطن العربي، التي تتأرجح بين ثقافة الترقيم والأمن العام لهذه الدول، وتختلط فيها مفاهيم الترتيب والتصنيف مع قواعد المنطق الحديث، وسوف يكون معي اقتراح بسيط قد يساعد بحل مشكلة الازدحام المروري، وكثرة السيارات في الوطن العربي عموما، ودول الخليج العربي خصوصا.
هذا وتقبلوا مني فائق الاحترام والتقدير
فيلسوف الكويت ... 8 أغسطس 2010 الدمام