عبدالله الناصر ( صحيفة الرياض)الجمعة 4 ربيع الأول 1428هـ - 23 مارس 2007م - العدد 14151 أعتقد بل أجزم أن كرامة المرء هي رأس ماله الحقيقي، لأن الله حين خلقه كرمه، فقال (ولقد كرمنا بني آدم)..فالأصل في الإنسان أن يعيش كريماً، شريفاً، نبيلاً، لأنه خلق كذلك، وكل ما خالف هذا فهو شاذ وعلى غير قياس،. وكرامة الإنسان الشريف، هي الدرع الذي يقي به رماح الإهانة وسهامها. والفرد الإنساني يشكل الأمة، كونها في مجملها مجموعة أفراد، ومن ثم فإن الأمة يجب أن تكون أمة كريمة، عزيزة الجانب، تعتز بذاتها وبإنسانيتها، ومتى تنازلت عن حقها في الكرامة، فإنها بذلك تدمر نفسها، وتسير في طريق الإهانة، والإذلال، والانهيار. وهناك فرق شاسع بين حق الفرد في الكرامة، وبين قيامه بأداء واجبه تجاه الآخرين، وذلك في مدارج العمل، ومسالك الوظيفة، وكسب العيش، وشؤون الحياة، فهذا مطلب تقتضيه المصلحة العليا لإعمار الأرض والكون، لكن الامتثال والطاعة شيء، والإهانة شيء آخر.. ونحن نرى بكل أسف، قياساً بحالنا، كيف تصان كرامة الإنسان في الغرب، فيأخذ حقوقه كاملة، ويؤدي ما عليه من واجبات أداءً كاملاً بلا خلط أو ارتباك في المسألتين.. فحق الفرد في المجتمعات الغربية مكفول، فلا يهان، ولا يذل، ولا ينكد أو ينغص عليه في معيشته، أو في عمله، مادام مخلصاً، صادقاً، شريفاً، محترماً لأمانته، ومسؤوليته، ممتثلاً لما تقتضيه عليه المسؤولية وطبيعة العمل.. بينما الأمر نراه مختلفاً في كثير من بلداننا العربية، حيث يظل المرء الشريف أحياناً يعاني من مسألة الكرامة إلى درجة قد تجعله ربما يتنازل عن بعض كرامته، ونراه ان هو حاول الاعتزاز بها، أو الذود عنها، يذهب ضحية لذلك.. بل إن كثيراً من أفراد المجتمع سوف يستخف به، ويزدريه، وربما اتهمه بالسذاجة، والغفلة، والمثالية، إذا هو حاول أن يعتز بهذه الكرامة، وأن يدافع عنها، وأن يثبت لمن حوله بأنه سوف يكون ناقص الإنسانية إن هو تخلى عنها، ولو كان ذلك على حساب مصلحته ومنفعته، وكأن فضيلة العمل أن تكون مطيعاً طاعة عمياء، بلا نقاش، أو حوار،أو مصارحة، فيما تراه يستحق المناقشة والحوار.. ومثل هذا هو الذي يجعل الجو العملي جواً ملتبساً، ذائباً، خاملاً، تموت فيه عوامل الإبداع والخلق.. إن الفكرة المستمدة من الفلسفة الذرائعية والتي ترى أن الغاية تبرر الوسيلة، هي في منظور الكرامة الإنسانية فكرة سخيفة، وتافهة، بل فكرة متلبسة بالرذيلة الإنسانية إذا كانت ستنال من كرامة الفرد.. ومن المؤكد أن هناك فرقاً بين المجاملة والمصانعة في شؤون الحياة، فاحترام الآخرين، والتبسط معهم، وإظهار البشاشة والود أمر مطلوب، بل هو أمر أخلاقي تتطلبه قضية التعامل وسيرورة الحياة.. والإنسان قد يتحول بإرادته إلى كائن مطيع، ومذعان، وناذر لنفسه في سبيل عمله، أو في سبيل من يرأسه، إذا كان ذلك في إطار الاحترام والتسابق والتسامح الأخلاقي بين الطرفين، وقديماً قال المتنبي: "ومَنء وَجَد الإحسانَ قيداً تقيّداً". نعم قد تصبح الكلمة الطيبة - وهي رشوة القلوب -، نوعاً من أنواع الإحسان، نوعاً من أنواع القيد الأخلاقي الذي يتقيد به الرجل الكريم، لأنه كريم في ذاته، ومن ثم فإنه سيصبح أسيراً للمسؤولية والمسؤول. ولكنه عندما يسام ضيماً، أو خسفاً، أو ظلماً، فإنه يتحول إلى إنسان صعب، يدافع عن كرامته، بكل وسائل الدفاع، وبالذات حينما يتحول جو العمل إلى هوان من الهوان.. وقديماً قيل: غَيرَ أن الفَتَى يُلاقي المَنَايَا كالحَاتٍ ولا يُلاقي الهَوَانَا فالإنسان عندما تُثلم كرامته لأي سبب، ويتغاضى عن ذلك، فهو إنسان ناقص الإنسانية، لأنه يؤثر الاستكانة، والخوف، والمصلحة على مشاعره الإنسانية، وشرفه الإنساني، وعزته الإنسانية، التي ولد وفطر عليها.. ولو فكر، ودبر في الأمر، لوجد أنه لاشيء يوازي عزته. فالحياة لا طعم لها في ظل الاستعباد والذل، بل لا قيمة لها في ظل الإحساس بالدونية، والهوان.. والحياة أقصر وأتفه من أن يقبل المرء المساومة فيها على كرامته. حكى لي صديق كان يعمل في إحدى المؤسسات، وكان رجلاً محترماً، مهذباً، عاقلاً، مثقفاً، محبوباً بين زملائه وأصدقائه.. وقال: زار المؤسسة مسؤول كبير، من أولئك الذين يرون أن مجرد مناقشة آرائهم يعتبر معصية، فحدث بينهما نوع من النقاش حول العمل، أبدى فيه ذلك الموظف، وجهة نظره بصراحة، مما أغضب المسؤول، فقال: "أنت تثور ويبدو أنك سوف تقطع رزقك".. وكان هذا المسؤول لا يقدر الناس ولا يضعهم في مقاماتهم.. وكان أحمق،أرعن، قليل الحظ من الخلق والأدب. فما كان من هذا الصديق إلا أن وقف وقال: اسمع أيها المسؤول الكبير لقد وقعت في خطأين جسيمين ليس تجاهي بل في حق الله، الأول: انك اعتبرتني حيواناً والله قد كرمني، إذ قال: (ولقد كرمنا بني آدم) والخطأ الثاني: أنك اعتبرت رزقي في يديك، ورزقي بيد الحي، الذي يقول (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين).. وخرج وكتب استقالته وقدمها في التو واللحظة غير نادم ولا كاره.. ولست هنا مفلسفاً أخلاقياً أعلم الناس كيف يحافظون على كراماتهم في شؤون العمل فلاشك أن لكل امرئ فلسفته ورؤيته، والتعامل في مسالك الحياة، ومناقلاتها المعقدة. غير أن كرامة الإنسان شرط ومبدأ أساس من مبادئ العيش في الحياة، بل ومن مبادئ العمل، فهو لن يستطيع أن ينتج وأن يبدع وهو في قيد الإهانة والاستذلال.. وهذا ما تدعو إليه كل شرائع البشر وقوانينها الوظيفية العملية في كل زمان ومكان، وتراثنا مليء بالدعوة إلى صيانة النفس عما يؤذيها ويؤلمها.. بل ويكرس مفهوم الكرامة، ومكارم الأخلاق.. يروى عن سيدنا عمر (رضي الله عنه) أنه كان يقول للناس: "علموا أبناءكم لامية العرب فإنها تعلمهم مكارم الأخلاق".. ولامية العرب هي لامية الشاعر الشنفرى، وهي من أعظم القصائد العربية، التي تكرس في النفس الكرامة، والإباء، وقوة الشكيمة.. فهو الذي يقول: وَفِيء الأرضِ منأَىً للكَرَيمِ عَنء الأَذَى وَفيها لمنء خَافَ القِلى متعزَّلُ أي أن في الأرض سعة لمن أراد أن ينأى بنفسه ويبعدها عن الأذى والكراهية والهوان.. وهو الذي من أجل كرامته وإبائه يفضل أكل تراب الأرض، ولا يقبل لأحد أن يشعره بأنه متفضل متطول عليه: وأستَف تُربَ الأرضِ كَي لا يَرى لَهُ عليّ من الطَولِ اُمرؤٌ متطّولُ ثم نراه وقد وصف نفسه بأنها حرة أبية متسامية لا يمكن أن تقيم على الضيم أو الأذى، وأنها ستتحول فوراً إلى موقع الكرامة حيث يجب أن تكون النفس الكريمة.. ولكنء نفساً حرةً لا تُقيِمُ بِي عَلَى الضيًّمِ إلا رَيثماً أَتَحوّلُ.. هكذا يصون الرجل الشريف الأبي نفسه من هوان الذل ويستشعر طعم الكرامة، فهي ألذ والله من كل المطاعم والمشارب، وهي التي تحفظ للمرء إنسانيته في عمله وفي أداء واجبه، وتجعله معتزاً فخوراً بنفسه كمواطن صالح يريد أن يعمر وطنه وأرضه بالخير والنماء في مجتمع مليء بالمحبة والتراحم، واحترام الآخر ذلك الاحترام الأخوي المتسامي على الذاتية والفردية والأنانية الضيقة واحتقار الغير باستلاب كرامتهم.. فالإنسان السوي هو الذي يبتعد بإنسانيته عن مهاوي الإذلال، معتزاً بتكريم الله له فإن لم يفعل فإن الله سوف يذله ويهينه: (ومَنء يُهِن الله فَمَا لهُ مِن مُكرِم)
hgulg ,hg;vhli >>>!!! hgugl ,hg;vhli