من فَضلِ الله علينا أنْ جَعَلَ حياةَ المسلمين مواسمَ، تَتوالى فيها الخيراتُ، ويَتسارع الناس فيها لاهتبال الحسنات، وحَصْدِ الأجر ورفْع الدرجات، وها نحن نَعيش اليومَ مُستهلَّ شهر ذي الحجة، وهو أحدُ الأشهر الحُرم الأربعة، الذي يُذكِّرُنا بموسم رُكنٍ عظيمٍ من أركان الإسلام، ألا وهو الحجُّ، الذي فيه آياتٌ بيناتٌ؛ أي: أسرار عظيمة، قد تَخفى على بعض حُجَّاجنا الأفاضل.
من هذه الأسرار:
1- أن الحجَّ ليس سفرة تَرفيهيَّة يُزَجَّى بها الوقت، وليس رِحلة عاديَّة للتنزه والترفيه عن النفس، إنه ركنٌ ركينٌ من دعائم الإسلام؛ ? وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ? [آل عمران: 97].
2- أن الحجَّ رمزٌ للتَّوحُّد بين المسلمين، فهو بمثابة مُؤتمر عالمي يجمعهم على اختلاف جنسياتهم، وألوانهم، ولُغاتهم، يقول أحدُ "المبشِّرين" النصارى: "سيظلُّ الإسلام صخرةً عاتية، تتحطَّمُ عليها سُفنُ التبشير، ما دام للإسلام هذه الدعائم: القرآن، واجتماعُ الجمعة، ومؤتمر الحج".
3- يعلِّمنا الحجُّ أن الحياةَ لا تَستقيم إلا بنشرِ الأمن والأمان، وأنَّ الذين يَسعون إلى إثارة الفتنِ بين الناس، وزَرعِ الأحقاد بينهم، ليسوا على شيء؛ قال تعالى: ? وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ? [آل عمران: 97]، ومنه دَعوة إبراهيم عليه السلام: ? رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ? [إبراهيم: 35].
4- الحجُّ يُغيِّر حياةَ الحاجِّ مِن شَخصٍ مُثقَل بالأوزار، مَكنوف بالمعاصي والآثام، إلى شَخصٍ طاهر؛ يقول صلَّى الله عليه وسلَّم لعمرو بن العاص عند إسلامه: ((أمَا علمتَ أنَّ الإسلامَ يَهدِمُ ما كان قبله، وأن الهجرةَ تَهدمُ ما كان قبلها، وأن الحجَّ يَهدم ما كان قبله؟))؛ رواه مسلم.
5- لبسُ الإحرام المقتصر على ثوبينِ أبيضين يُذكِّر بلباس الأكفَان بعد الرحيل، وأن الحياةَ إلى زوال.
وَانْظُرْ لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا ??? هَلْ رَاحَ مِنهَا بِغَيْرِ الطِّيبِ وَالْكَفَنِ
فعجبًا لمن يَرجع من حَجَّه أسوأَ مما كان عليه قبل الحجِّ، وقد أقام على نفسه الحُجَّة، وأزال في الانقطاع عن الجواب يوم القيامة المعذرة، حاجٌّ ويَسعى بين الناس بالنميمة، حاجٌّ ويظلم الناس، حاجٌّ ويأكلُ السُّحتَ والحرام، حاجٌّ ويَشرب الخمور، ويُضيِّع الحقوق، فأيُّ حاجٍّ هذا؟!
6- في الحجِّ إرشادٌ إلى التواضع ونبذِ الكبرياء، اللباس إزارٌ ورداء بلا ازديان، الرأس مُطَأطِئ للواحد الدَّيَّان، الجسم مستكين للرحمن، اللسان لاهِجٌ بطلب الصَّفحِ والغُفران، النواصي بين يدَي ربِّها - حَلْقًا أو تَقصيرًا - استسلامًا لمن فَضَّلَ الإسلامَ على سائر الأديان، فكيف بك أيها الحاجُّ إذا رجعتَ تَكبَّرتَ على خلق الله، ولم تَرضَ منهم إلا أن يُنادوك بالحاجِّ، ويُجلسوك في أعلى مقام، ويُفضلوك على غيرك، رياءً وسمعةً، ومباهاةً ومفاخرةً؟!
7- رؤية بيت الله المعمور مَشهدٌ للإشفاق من الذنوب التي تكسَّرت نصالهُا على النصال، الخليلُ وابنُه - عليهما السلام - يَرفعان أشرفَ بيت، ومع هذا يَسألان الله قَبول العمل وعدمَ ردِّه: ? وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? [البقرة: 127]، قال عبدالله بن مسعود: "المؤمنُ يَرى ذنبه كالجبلِ فوقه يَخاف أن يَقعَ عليه، والمنافقُ يَرى ذنبه كذبابٍ مَرَّ على أنفه فأطاره"، ويقول الحسنُ البصريُّ: "المؤمنَ جَمَعَ إحسانًا وشفقةً، والمنافقُ جَمَعَ إساءةً وأمنًا".
8- وفي تقبيلِ الحَجر الأسودِ حسنُ الانقياد لشرع الله وإن لم تَظهرِ الحِكْمةُ، فالمؤمنُ وقَّاف عند نصوص الشرع، لا يتأوَّلها بعقله، ولا يصرف وجهها بوجه إرادته، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "والله، إني لأعلم أنك حَجرٌ لا تَنفع ولا تَضرُّ، ولولا أني رأيتُ رسولَ الله يقبِّلك ما قبَّلتُك"؛ مُتفق عليه، وهو دليلُ كمالِ الاتباع، يقول النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((خُذوا عنِّي مناسكَكم))؛ رواه مسلم بلفظ مُقارب.
9- واجتماعُ الناس في عَرفَة تذكيرٌ بالموقف الأكبرِ يومَ الحشر لفصلِ القضاء بين الخلائق؛ ليصيروا إلى منازلهم الحقيقية: إمَّا إلى نعيم، وإما إلى جحيم؛ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن كانت له مَظلمة لأحدٍ، مِن عِرضه أو شيء، فلْيتحلَّلْه منه اليوم، قبل ألاَّ يكونَ دينارٌ ولا درهمٌ، إن كان له عمل صالح أُخِذَ منه بقدرِ مَظلَمتِه، وإن لم تَكنْ له حسنات أُخِذَ من سيئات صاحبه فحُمِلَ عليه))؛ رواه البخاريُّ.
10- ومعنى الطَّواف: أننا لا نُريد إلا منهج الإسلام، وأن عزَّتَنا وتعاليمنا ورسالتنا وأدبنا وسلوكنا مِن هنا، من مكة، مركزِ نورِ النبوَّة، ومحور شُعاع الرسالة، لا مِن شَرقٍ، ولا من غرب، ولا من شمال، ولا من جنوب.
11- ومن أعظم هذه الدروس: تركُ الغلوِّ والتشدُّد فيما فيه يُسرٌ، فالخير في الاعتدال والتوسط؛ قال ابن عباس - رضي الله عنه -: قال لي رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم غداةَ العَقَبة وهو على ناقته: ((القُطْ لي حصًى))، فلقَطتُ له سبعَ حصيات هُنَّ حَصى الخَذْفِ، فجعل يَنفضهنَّ في كَفِّه ويقول: ((أمثال هؤلاء فارموا))، ثم قال: ((يا أيها الناس، إياكم والغلوَّ في الدين؛ فإنه أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين))؛ "صحيح سُنن ابن ماجه".
لاَ تَذْهَبَنَّ فِي الأمُورِ فَرَطَا لاَ تَسْأَلَنَّ إنْ سَأَلْتَ شَطَطَا
وَكُنْ مِنَ النَّاسَ جَمِيعًا وَسَطَا
فيا مَن له المال ولم يَحُجَّ، وله الزَّاد ولم يَحج، وله القدرة ولم يَحج، ماذا تنتظر؟
إِنْ كُنْتَ حَاوَلْتَ دُنْيَا أَوْ ظَفِرْتَ بِهَا ??? فَمَا أَصَبْتَ بِتَرْكِ الحَجِّ مِنْ ثَمَنِ
الخطبة الثانية
من مَواسم الطَّاعة العظيمة: العشرُ الأُول من ذي الحجَّة؛ يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما من أيامٍ العملُ الصالح فيهنَّ أحبُّ إلى الله منه في هذه الأيام العشر))، قالوا: ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجل خَرجَ بنفسه وماله، ولم يَرجع من ذلك بشيء))؛ رواه البخاري بلفظ قريب.
قال ابن حجر: "والذي يَظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمُّهات العبادة فيه، وهي الصلاةُ والصيام والصدقة والحَجُّ، ولا يتأتَّى ذلك في غيره".
وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما من عَمَلٍ أزكى عند الله - عز وجل - ولا أعظم أجرًا، من خيرٍ يَعمله في عشر الأضحى))، فكان سعيد بن جُبير إذا دخلَ أيام العشر، اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يَكاد يقدر عليه؛ "صحيح الترغيب".
ومن أنواع هذا الاجتهاد:
1- الحفاظُ على الصلاة، والحرصُ على ألاَّ يُؤخَّر منها شيءٌ عن وقتها، مع الإكثار من النوافل.
2- الصيام، ويُستحبُّ أن تُصامَ التسع كاملة، والإمساك عن الأكل يوم العيد حتى يُؤكَل من الأضحية، وهذا معنى صيام العشر؛ فعن هنيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قالت: "كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَصومُ تسعَ ذي الحجة، ويومَ عاشوراء، وثلاثةَ أيامٍ من كل شهر"؛ "صحيح سنن أبي داود".
وممن أُثِرَ عنهم صيامها: عبدالله بن عمر، والحسن البصري، وابن سيرين، وقتادة، قال الإمام النوويُّ عن صوم أيام العشر: "إنه مُستحبٌّ استحبابًا شديدًا"، ويتأكَّد صيام يومِ عَرفَة لغير الحاجِّ؛ لأنه يُكفِّر ذنوبَ سنة قَبلَه، وسنةٍ بعده؛ كما في "صحيح مسلم".
3- الإكثار من التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح في هذه الأيام، يَجهر به الرجال، وتُخفيه النساء؛ قال الله تعالى: ? لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ? [الحج: 28]، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "الأيامُ المعلومات: أيام العشر"، وقد كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما "يَخرُجَانِ إلى السُّوق في أيام العَشر، يُكبِّران ويُكبِّر الناسُ بتكبيرهما"؛ البخاريُّ.
4- مَن نوى أن يُضحِّي - الأبُ أو وليُّ الأمر - فإنه لا يَنبغي له أن يَأخذَ من شَعَرِه، ولا مِن بَشَرتِه، ولا من أظافره شيئًا، منذ دخول العشر حتى يُضَحِّي؛ فعن أمِّ سَلَمَة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إذا دَخلتِ العشرُ، وأرادَ أحدُكم أن يُضحِّي، فلا يَمَسَّ مِن شَعره وبَشَره شيئًا))، وفي رواية: ((فليمسك عن شَعره وأظفارِه))؛ رواه مسلم.