( 181 ) مدار الأفكار
سراج المعراج
يقول الشاعر العربي :
يا ليلة الإسراء أنـت عظيمـة= كم فيك من عبر وفيك معانـي
و جعلت معجزة لآخـر مرسـل= فبقيت إعجازا على مدى الأزمان
تصادف بعد غد ذكرى الإسراء والمعراج، التي جاء ذكرها في قول الحق سبحانه وتعالى: «سبحان الذي
أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو
السميع البصير» (الإسراء: 1)، فهي قصة معجزة وخارقة لنواميس الكون قاطبة، ربطت الأرض
بالسماء، والأحياء بالأموات، والقريب بالبعيد، والإنسان بالملائكة، والحاضر بالماضي وبالمستقبل، بل
إنها ربطت بين الدنيا والآخرة، ولم تحدث لأحد من قبله (صلى الله عليه وسلم) وفقا للنقل، ولن تحدث
لأحد من بعده، ومن المسلم به عند المسلمين أن هذه الحادثة المعجزة جزء من سيرة المصطفى صلى
الله عليه وسلم، والتكذيب بها - كما يقول الدكتور عبد الله المسند - كفر بالقرآن والسنة، فالإسراء آية
من آيات الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى، وهو انتقال عجيب بالقياس إلى مألوف البشر، ولهذا فقد
أثير حوله جدل طويل في ما إذا كان تم بالروح والجسد أم بالروح فقط، والمتفق عليه لدى جمهور
العلماء انه تم بالروح والجسد معا، لأنه لو كان بالروح فقط لما أحدث خلافا مع ذلك فإن الذي يدرك
شيئا من طبيعة القدرة الإلهية لا يستغرب واقعة كهذه، فالنقلة من المسجد الأقصى والوصول إليه في
سرعة تتجاوز الخيال ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى وتلقي القرآن والرسالة عنه، وقد صدق
أبو بكر - رضي الله عنه - وهو يرد المسألة المستغربة عند القوم بقوله: «إني أصدقه في أبعد من
ذلك، أصدقه في خبر السماء»، وأما المعراج فهو الارتفاع والارتقاء من عالم الأرض إلى عالم
السماء، وقد حدثت رحلة الإسراء والمعراج في ليلة واحدة قبل الهجرة بسنة تقريبا، ليمحص الله
المؤمنين ويميز من كان صادقا في إيمانه فيكون خليقا بصحبة رسول الله الأعظم صلى الله عليه وسلم
إلى دار الهجرة، وجديرا بما يتحمله من أعباء وتكاليف، لقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه
الرحلة بالأنبياء إماما لبيان فضله وعلو منزلته وتأكيد أواصر القربى بين الأنبياء كافة، وتعتبر هذه
الرحلة بحق محطة مهمة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي مسيرة دعوته، فقد كانت نفحة من
نفحات الفرج بعد اشتداد الأزمات والمحن على سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم، ومن معه من
المؤمنين، ففي ذلك العام أو الذي اسماه عالم الحزن فقد الحبيب زوجته التي كانت تخفف عنه الآلام
والأحزان، ثم فقد عمه أبو طالب المطاع في قومه والمدافع عنه، لقد كان صخرة أمام عدوان قريش
ووثنيتها تحول بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلاحقت المحن المريرة القاسية حيث
جاءت محنة المقاطعة، وسياسة التجويع، «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا»، فكان
الصبر الجميل ومواجهة الأحداث بحكمة وسياسة رحيمة، وفي ظلمات هذه الليالي الحالكة سطعت أنوار
نفحات الرحمات الإلهية، هبط أمين الوحي جبريل عليه السلام وأخذ بيد سيد البشرية صلى الله عليه
وسلم ميمّما بيت المقدس وصاعدا به إلى السماوات العلا، حتى وصل إلى مرتبة وقف عندها جبريل
وتقدم سيد الخلق والسراج المنير، حتى دنا فتدلى، حيث فاضت التجليات الإلهية «فأوحى إلى عبده ما
أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى» (النجم: 10 - 12)، فقد أشرقت شموس الفرج
تملأ ما بين السماء والأرض، فأسرى الله بعبده محمد صلى الله عليه وسلم ليرى من آياته الكبرى
ويجعل له من لدنه سلطانا نصيرا، وان أهم ما تستفيده من رحلة المعراج إن الإنسان الصالح هو الذي
يعيش بهموم المسلمين وأحوال الأمة، ويتجلى ذلك في الحديث الذي دار بين سيدنا موسى ونبينا محمد
عليهما أفضل الصلاة والتسليم، وكذلك بيان أهمية الصلاة وعظم شأنها، حيث فرضت وحدها من بين
أركان الإسلام في السماء السابعة، فالصلاة معراج للمسلم إلى ربه جل وعلا، كما أراد الله تبارك
وتعالى أن يؤكد في هذه الرحلة الميمونة الربط الوثيق بين المسجدين المسجد الحرام الذي ابتدأ منه
الإسراء والمسجد الأقصى الذي انتهى إليه الإسراء.
من بعد عام الحزن جـاب الله إعجـاز= وأسرى الولي بالمصطفى وأوجب الفوز
في رحلة الإعجاز خير الـورى فـاز= وأمّ الصفوف وبيرق العـز ّ مركـوز