نماذج
تربوية من
السنة النبوية
لما كانت التربية الفكرية لا تكتمل إلا بالقدوة الحسنة من المعلم والمربي، فقد ضرب - عليه الصلاة والسلام - أروع الأمثلة على ذلك، فقد كان - كما قالت أُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -: "خُلقهُ القرآن"..
وسمع أهل المدينة مرة صوتاً مفزعاً، فخرجوا يستطلعون الأمر، فإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبلهم قادماً من جهة الصوت، وهو على فرس عري - بلا سرج- يقول لهم مُطمئناً: ((لن تراعوا، لن تراعوا))، وهو بذلك يضرب أروع الأمثلة في الشجاعة والفروسية والإقدام.. وهكذا ينبغي أن يكون المربي سباقاً مبادراً.. ولو ذهبنا نستقصي سيرته في هذا الشأن، لطال بنا المقام، لكن لعلَّ ما ذكرته يكون كافياً في بيان حرصه - عليه الصلاة والسلام - على التربية، وأنَّها لا تنفك عن التعليم.
إن هذا التحول الكبير والنجاح العظيم الذي حققه صلى الله عليه وسلم في صناعة الأمم والأجيال حتى ارتفعت الأمة من السفوح إلى قمم الجبال كان نتيجة منهج تربوي تعليمي دعوي فكري رصين، له معالمهُ وسماتهُ، وهو بلسم ودواء أصيل لما نزل بالأمة من انحدار وانكسار وذلةٍ وهوانٍ، فعلى الدعاةِ وأهل التربية والتعليم أن يتأملوا منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وطريقته في تربيته وتعليمه ودعوته، ويدرسوا هذا المنهجَ دراسة متأنية متفحصة لتحديد معالمِه واستنباط سماتهِ وخصائصه فلن يصلحَ آخرُ هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
كَيْفَ كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَلَقَّوْنَ الأفكار عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟:
ومن الأمثلة: موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الشاب الذي استأذنه للزنا جُمَلاً من المعاني والعِبَر التي تلفِتُ انتباه كل ذي لُبّ، لكي يتقمَّص تلك الدُّرر والخطوات التي تجعل المرء برتبة سامية في تفكيره وعلاجه للمشكلات الطارئة، التي تطرأ على الناصح أو الراعي كما طرأ موقف هذا الشاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه!
فرقٌ بين موقف الرسول وأساليبه وخطواته مع الشاب وبين موقف من كان في حضرة هذا الموقف الذين اكتفوا بالزجر ليس إلا!
عن أبي أمامه قال: ((إن فتىً شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم.. فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه.. وقالوا مه مه! فقال: أدنه، فدنا منه قريباً، قال: فجلس. قال أتحبُّه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال أتحبُّه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال أتحبُّه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال أتحبُّه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم! اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء))[1].
أولاً: لنتأمل رحابة صدر الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أن هذا الذي يريد المعصية ذهب بنفسه لمحمد صلى الله عليه وسلم لكي يستأذنه ويخبره بما يكن صدره، وهذه همسة لمن يقوم على توعية الناس، ومن ولاَّه الله رعيَّة استرعاه الله عليها! (لماذا الابن أو البنت لا يلجئون للأب أو الأم عند الوقوع في الذنب أو الخطأ؟ لماذا بعض أئمة المساجد والخطباء والناصحين لا يبادر إليهم الناس لعلاج مشاكلهم الخاصة والبحث عن تجاوز أخطائهم التي يقعون فيها؟ لماذا الطلاب أو الطالبات يشعرون في بعض الأحيان بالحواجز المنيعة بينهم وبين المعلمين والمعلمات؟)..
أسئلة كثيرة ينبغي أن نطرحها على أنفسنا من أجل أن نتمتع برحابة الصدر التي تجعلنا نتعاون على تجاوز أخطاء من هم بحاجة إلينا بشكل مباشر! التكلف.. التصنع.. الكبر.. الخلق السيئ.. قلة الفقه في التعامل مع المخطئ.. القسوة.. عبوس الوجه.. الفضاضة.. التفرد.. يصنع الفجوة بين المصلح ومريد الصلاح!!
ثانياً: جاء الشاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهمُّه الوحيد أن يقضي شهوته في كل وقت، حيث كسر حاجز الحياء عندما طلب الإذن من رسول الله في حضرة من كان جالساً مع محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يفيدنا بأن الشاب مهما ساءت إرادته وقبُح فعله فإنه يتميز بجوانب أخرى تجعل المرء يتوازن في التعامل معه ومراعاة شعوره عند خطأه، وما موقف الرسولِ مع شارب الخمر الذي تكرر مجيئه على الرسول ببعيد عنا حينما قال لا تسبوه، فو الذي نفسي بيده إنه يحب الله ورسوله، فهذا الشاب ما جاء إلى رسول الله إلا لشدة خوفه من المعصية ولذلك قال: ائذن لي في الزنا!
ثالثاً: تأمل كيف حكم الرسول عواطفه وعقله في تعامله مع المخطئ، على الرغم من ردة فعل القوم حينما زجروه، وهذا يشير إلى أن المصلح لا يتأثر بالجو المحيط عند حصول الخطأ لكي لا يقع في أخطاء عدة، بل يتأنى ويدرس حالة المخطئ من جميع الجوانب، ومع زجر القوم لهذا الشاب يصمت الرسول صلى الله عليه وسلم ويشير إليه (أدنه) أي أقرب مني!
رابعاً: تصور موقف هذا الشاب مع الجو الذي يعج بالزجر من الحاضرين، ثم تصور موقفه حينما دعاه الرسول للقرب منه! قرَّبه صلى الله عليه وسلم ليشعره بالأمان! قرَّبه صلى الله عليه وسلم لكي يضمد جراح الزجر ويبعده عن ضجيجه! قرَّبه صلى الله عليه وسلم لكي يبلغه الرسالة والنصح بالتي هي أحسن! هذا هو الحبيب يشير إلينا أن نهيئ المخطئ تهيئة نفسية لكي يقبل الصواب، لأن بعض المربين لا يفقه أساليب جذب المخطئ التي تجعله يقلع عن خطأه! وحال بعض بني البشر حينما يقابلون المخطئ ينهجون الصراخ والسباب والضرب قبل التفاهم والحوار، وهذا دأب العاجزين الذين يستثقلون صاحب الخطأ عند خطأه، إنه لا يذهب عن مخيلتي بعض معلمينا الذين واجهوا الطلاب حال حصول الخطأ بالعبوس والفضاضة والضرب والشد والجر! ولا يغيب عن ذهني بعض الناصحين الذين يستغلون المخطئ لأغراضهم الذاتية، وإضعاف شوكتهم بالنظرات المتكلفة! أسلوب تقريب الرسول للمخطئ أسلوب تربوي يحوي جملا من العبر والمعاني التي ينبغي أن يسلكه كل مربي مع المخطئ..
خامساً: وضع حبيبنا صلى الله عليه وسلم يده على صدره حينما دعا له، وهذا يشير إلى معجزته صلى الله عليه وسلم بشفاء الشاب مباشرة حينما وضع يده على صدره، ومع ذلك فإن وضع يده على صدره تعتبر لمسة نفسية تشفي الرغبة التي كانت تتحدث بها نفسه عن هذه الجريمة، وهذه من الوسائل التي استخدمها محمد عليه الصلاة والسلام في تضميد جراح هذا الشاب وغيره، حتى أن الرسول ضم الحسن على صدره بعد ما قال له اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه كما في صحيح مسلم، وأصاب سعد بن أبي وقاص بعد الفتح مرض شديد، فعاده النبي فدعا له ووضع يده على صدره وقال: اللهم اشفِ سعدا! قال سعد في أواخر حياته: فو الله مازلت أجد برد يده عليه الصلاة والسلام علي صدري حتى اليوم!
سادسا: لعلنا لا حظنا استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم لأسلوب الإقناع الذي يعتبر هو القوة الخفية أثناء التوجيه، وعندما تتأمل حال الرسول في الحديث تجد بأنه نهج أسلوبا من أساليب الإقناع (قال أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال أتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال أتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم.
سابعا: حرص الرسول أن يبتهل إلى الله بصلاح هذا الشاب، فقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه!
ونلحظ من هذا الموقف وهذا الدعاء، هو سماع الشاب لهذه الدعوات، فلا شك بأنك عندما تسمع أحدا يدعو لك، أن هذا مؤشراً لمحبتك وقبولك من لدن الآخر، فماذا نتصور حينما يسمع منا المخطئ بالدعوات الزاكيات الطيبات!!
أخيراً: فقه الرسول صلى الله عليه وسلم بحال المخطئ فقد أوجز وأبلغ في وقت يسير
شامل، حيث لم يتكلف ذكر الأدلة الموجودة في القرآن، ولم يذكر العقوبة المترتبة على ذلك، ولم يحصل التوبيخ أو التحذير، بل عالج ذلك بكلمات يسيرات بأساليب راقية جعلت هذا الشاب يخرج من عند الرسول والزنا أبغض شيء لديه!
لنتأمل تعدد وسائل اهتمام محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الشاب في هذا الموقف القصير.. طلب قربه! أجلسه بجواره! حدثه بالكلمة الطيبة! هز عاطفته! أقنعه! ألان كلمته! وضع يده عليه! دعا له!
مثال أخر:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: نا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، قَالَ: نا شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لأَبِي: ((كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ إِلَهًا؟ " قَالَ: سَبْعَةً، سِتٌّ فِي الأَرْضِ، وَوَاحِدٌ فِي السَّمَاءِ، قَالَ: فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، فَقَالَ: يَا حُصَيْنُ، أَمَا إِنَّكَ إِنْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعَانِكَ. قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ حُصَيْنٌ، أَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي، قَالَ: فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَأَعِذْنِي مِنْ شر نَفْسِي))، لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ شَبِيبِ بْنِ شَيْبَةَ إِلا أَبُو مُعَاوِيَةَ[2].
نعم هذا هو المنهج القويم في الحوار والأخلاق المحمدية.. أن رسولنا صلى الله عليه وسلم يعلمنا أسلوبا من أساليب الجدال بالتي هي أحسن والحوار الهادئ والمنطقي.
فلم يبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: لم تعبد ستة في الأرض وواحداً في السماء من الآلهة؟ أخبرني يا حصين ألست رجلاً عاقلاً؟ ألا تفكر؟ ولكن سأله عن عدد آلهته فأجاب عن حقيقة أمره وما يعبد من الآلهة.
فتابع النبي صلى الله عليه وسلم توجيهه الحكيم فما قيمة الإله إذا لم تخشاه وترجوه، وهل يبقى لعبادته قيمة تذكر أو مدلول يستفاد منه، فما فائدة الآلهة الستة التي في الأرض إذا كانوا لا يغنون ولا يسمنون من جوع؟ أليس أله واحد تخشاه خيرا من عشرات لا يساوون شيئا، فحقيقة العبادة هنا تبدو جلية للعيان.
حساب المواطن.
أن الذي يدعي عبادة الله سبحانه وتعالى ثم يفعل كل ما يخالف روح هذه العبادة من الطاعة والالتزام فستبقى العبودية هذه دعوى تحتاج إلى الدليل، والدليل هنا بقدر خشيتك ورهبتك ورغبتك في هذا الإله سبحانه.
لقد اعترف حصين أنه يعبد إلهاً حقيقياً واحداً فهو الذي في السماء رغبة ورهبة (أمل ورجاء وخوف) أما الستة الباقية فما هي إلا إتباع ذميم لعادات موروثة من الآباء والأجداد.
فالحصين مقتنع بوحدانية الله وأنه هو المستحق للعبادة الحقه فإذا كانت الخطوة الثانية من النبي صلى الله عليه وسلم وهو؟ أن يعرض على حصين الإسلام الذي يقول بأن الله واحد لا شريك له.
فأقتنع الحصين بهذا فأسلم بفضل الله سبحانه وتعالى ومن ثم بفضل طريقة الرسول في الإقناع، وهي التي علينا أن ننتبه إليها جيدا عندما نواجه في عصرنا هذا بعضا من أهل زماننا لعلاجهم بهذا الأسلوب الراقي دون إثارة العصبيات التي تؤدي إلى أن يمسك كل طرف برأيه ويدافع عنه.
ثم انظر إلى الخطوة الأخيرة والمساعدة على الاستمرار على الهداية في قوله صلى الله عليه وسلم للحصين: (قل اللهم الهمني رشدي، وقني شر نفسي).
لماذا هذا الدعاء بالذات؟..
إن فيه إلهاماً من الله بأخذ يد حصين إلى طريق الرشاد، وحتى لا يعود القهقري إلى الوراء، وأما شر نفسه فلأن النفس أمارة بالسوء، فهذه شياطين الإنس والجان تزين له ما كان فيه من الشرك.
klh`[ jvf,dm lk hgskm hgkf,dm