( 171 ) مدار الأفكار
مدارس المجالس
يقول الشاعر العربي :
إذا لم يكن صدر المجالس سيدا= حكيما تصدره الخصال النفائس
فكل امرئ أمسى شريفا بغيره= فلا خير فيمن صدرته المجالس
إن المجالس والدواوين تشكل نوعاً من أنواع النشاط الثقافي والاجتماعي,وتشكل أهم أعمدة العادات
النبيلة,والتقاليد الأصيلة الموروثة عن الآباء والأجداد , فهي المدرسة الأولى التي تساهم في بناء شخصية
الإنسان الخليجي ولها دور أساسي في تعليم وتخريج الأجيال ,وزرع الثقة لديهم لمواجهة شتى أمور
الحياة ,وتعد المجالس قديما مدارسا للفضائل ومكارم الأخلاق, ولا تزال تؤدي دورها إلى اليوم ,فهي مراكز
إشعاع ثقافي ,وملتقى أدبي للأصدقاء والأقرباء والمعارف وأبناء الحي ّ,والمجلس أو الديوانية تعني مكانا
منعزلا من البيت له باب خارجي يتخذ خصيصا لجلوس الرجال وهي بمثابة ناد يتداول فيه الرجال مختلف
شؤون الحياة من معيشية وتجارية وسياسية وأدبية وفكرية , وعادة ما تكون الديوانية أكبر الغرف وفي
صدر الدور الأرضي من المنزل ويدل كبر الديوان على كرم صاحبه وعلو مكانته في المجتمع , ويقول
أرباب اللغة : ( جلس يجلس جلوسا , فهو جالس من قوم جلوس وجلاّس ,وأجلسه غيره ,والمجلس بكسر
اللام هو موضع الجلوس ) , قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا
يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا) ( المجادلة: 11) , فقد أمر الله سبحانه وتعالى بحسن الأدب
,وبالتوسعة بين رواد المجلس وعدم التضايق فيه , وقال صلى الله عليه وسلم: (خير المجالس أوسعها )
وقيل : ( إن التنافس كان قائما بين المسلمين للفوز بالقرب من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فأمروا
بأن يفسح بعضهم لبعض ) ,وهي قاعدة عامة كما يقول العلماء في كل مجلس يتم الاجتماع فيه سواء كان
مجلس حرب أو ذكر أو يوم جمعة أو حتى المجالس الاعتيادية اليومية , وكل واحد أحق ّبمكانه الذي يسبق
إليه ولكن يوسع لأخيه , قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقم الرجلُ الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه
ولكن تفسحوا وتوسعوا ) ,و يقول أبو بكر بن حزم : ( إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله فلا يحل لأحدهما
أن يفشي على صاحبه ما يكره وأعلم أن كتمان الأسرار يدل على جواهر الرجال ) ,وسئل أحد الفلاسفة :
أي المجالس أطيب ؟ قال : ( ما سلمت فيه من التعب وأمنت فيه من الثقيل وكثرت الفائدة ) ,وأعظم
حقوق المجالس ذكر الله عز وجل، وخيرها ما استغل في ذكر الله وطاعته، والتفقه في الدين , و أسوأها
مجالس الكذب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل للذي يكذب ليضحك الناس ويل له ثم ويل له»،
وقال أيضا «لا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يحزنه»، و ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:
(لا تجالسوا أهل الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة)، ومن آداب المجالس التي يجب مراعاتها : ( مجالسة
أهل الصلاح والتقوى، وتجنب جلساء السوء والمنحرفين أخلاقيَّا ,وذلك اقتداء بقول المصطفى صلى الله
عليه وسلم: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك
وإما ان تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة )
. وكذلك من الآداب إلقاء السلام عند القدوم للمجلس والانصراف منه التزاما بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلِّم، فإذا أراد أن يقوم فليسلِّم؛ فليست الأولى بأحق من الآخرة) ,وعدم
الجلوس بين رجلين إلا بإذنهما، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يُجْلَسْ بين رجلين إلا بإذنهما ) ,كما
يجب الجلوس بأدب واعتدال والتزام الوقار وحسن المظهر والسكينة والتقيد بأدب الحوار واحترام آراء
الجلساء و الإفساح للقادم ,والابتعاد عن أماكن الشبهات , كما أن أمانة المجالس توجب حفظ أسرارها
والالتزام بدعاء كفارة المجلس، كما أرشدنا إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (كفَّارة المجالس أن
يقول العبد: سبحانك اللهم وبحمدك . أشهد أن لا إله إلا أنت . أستغفرك وأتوب إليك), ومن خلال المجالس
التي يعتادها ويرتادها أبناء الخليج العربي يتم غرس الفضائل في النفوس ,و تعويد وتربية الناشئة على حب
الوطن ,و مكارم الأخلاق التي يتحقق بموجبها تماسك المجتمع وتسوده روح المحبة والتعاون والتفاني في
سبيل نهضته ورقيه , ولكن مما يؤسف له بأن بعض المجالس والديوانيات في الوقت الحاضر فقدت دورها
الرامز إلى الأدب والكرم , وتجسيد شموخ الشيم والقيم وذلك عندما أصبحت مقرا للعب الورق والقيل والقال
, والغيبة والنميمة وكثرة الجدال , وغيرها من الأمور عديمة الفائدة , وكذلك أحتل التلفزيون والفضائيات
الهابطة جزءا كبيرا من مساحتها, ولكن نتمنى أن تستعيد المجالس دورها الرائد في التربية والتوعية والتوجيه
وإيجاد مساحة رحبة للحوار وتبادل الآراء , وألا تستولي على كل أوقات أرباب البيوت على حساب المنازل
والزوجات والأبناء لتجسد حقيقة القول المأثور ( المجالس مدارس ) .
مجالس الأجواد فخـر ومـدارس= لو كان ما تغني عن العلم والدرس
فيها حديث المرجلـة والفـوارس= ومكارم ٍ بين الورى تنغرس غرس