( 164 ) مدار الأفكار
نقاوة البداوة
يقول الشاعر العربي:
لو كنت تعلم ما في البدو تعذرنـي= لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر
ما في البداوة من عيـب تـذم بـه= إلا الشجاعـة والإحسـان بالبـدر
إن البدو كما يؤكد كثير من الباحثين هم أول من تكلم اللغة السامية العربية التي تعتبر أقدم اللغات التي لا
تزال حية حتى اليوم, وهم أرومة العنصر العربي ومادته ,وتاريخهم كما يقول العلامة أحمد وصفي زكريا
هو تاريخ العرب الحضر نفسه في الجاهلية والإسلام ,وتعتبر حياة البادية بالرغم من بساطتها وقسوتها
في بعض الأمور منشأ الأنبياء والحكماء,وملجأ للصالحين والزهاد والعباد ,وفي ذلك يقول النبي صلى الله
عليه وسلم: ( ما بعث الله نبياً ألا رعى الغنم (فقال أصحابه وأنت ) فقال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل
مكة) , وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهُ قال : قال رجلٌ : أي الناس أفضلُ يا رسول الله؟ قال:
(مؤمنٌ مجاهدٌ بنفسه وماله في سبيل الله )، قال: ثمَّ من؟ قال:" ثم رجلٌ معتزلٌ في شعب من الشعابِ يعبد
ربهُ" وفي رواية : ( يتقي الله ، ويدع الناس من شره ) , وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( يُوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبعُ بها شعفَ الجبال، ومواقع القطرِ، يفر بدينه من الفتنِ) ,وقال
أيضا : ( من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة
أو فزعة طار عليه يبتغى القتل أو الموت مظانة أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف أو بطن
واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير)
,وحياة البداوة في تاريخ الإنسانية أقدم من حياة الحضر وفى ذلك يقول العلامة عبد الرحمن بن خلدون في
مقدمته المشهورة : ( إن البدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم وعوائدهم وأن الحضر هم
المعتنون بحاجات الترف في أحوالهم وعوائدهم ,فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة ),أما عن صفات البدو
أنفسهم فأهمها القرب إلى الخير والشجاعة إلى جانب الكرم والجودة والأمانة فأهل البدو أقرب إلى الخير
أما أهل الحضر ولكثرة ما يعانون من فنون الملذات وعادات الترف و الإقبال على الدنيا والعكوف على
شهواتهم منها فتتلون نفوسهم بكثير من مذمومات الأخلاق والشر والبدو وان كانوا مقبلون على الدنيا مثل
أهل الحضر ألا أن هذا الإقبال يكون في المقدار الضروري لا في الترف ، ولا شيء من أسباب الشهوات
والملذات ولأنهم أقرب إلى الفطرة الأولى فهم أبعد عما ينطبع في النفس من سؤ الملكات والعادات المذمومة
والقبيحة وأهل البدو اقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر والسبب في ذلك أن أهل الحضر القوا جنوبهم على
مهاد الراحة والدعة وانغمسوا في نعيم الترف ووكلوا أمورهم في المدافعة عن أحوالهم وأنفسهم إلى واليهم
والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم فهم آمنون قد القوا السلاح وتوالت على ذلك منهم
الأجيال ,أما أهل البدو لتفردهم وبعدهم عن الحامية وإنتباذهم عن الأسوار والأبواب فهم قائمون بالمدافعة
عن أنفسهم لا يوكلونها لسواهم فهم دائما يحملون السلاح ويتفردون في القفروالبيداء مدلين ببأسهم واثقين
بأنفسهم وقد صار لهم البأس خلقا والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استفزهم صارخ) ,
ولفضائل البادية والبداوة والبدو فقد كان الخلفاء والأمراء في عصور الحضارة الإسلامية يدفعون بأبنائهم
إلى البادية لاكتساب صفات الشجاعة والفروسية وحتى تشتد سواعدهم وتقوى عزائمهم وتأهيلهم لتحمل
المشاق والمسؤوليات الجسام كما كان الآباء الذين يريدون لأبنائهم أن يكونوا من الشعراء يرسلون أبنائهم
إلى البادية لتعلم اللغة ولتستقيم ألسنتهم وتصح مترادفاتهم وتصفوا قرائحهم وبالنسبة لبعض الأقوال
الشرعية التي وردت في ذم (التعرب( وهو سكنى البادية فقد أشار إليها العالم الفقيه عبد الرحمن بن
خلدون معتبرا أنها ليست دليلا على مذمة (البداوة) وساق أدلة كثيرة منقولة ومعقولة تؤكد عدم مذمة
البداوة والبدو وأشار إلى أن النهى عن التعرب أو سكنى البادية كان مرتبط بوقت معين وظروف معينة
وهى ظروف وجوب الهجرة على المسلمين وملازمة المدينة المنورة مع النبي صلى الله عليه وسلم
وقد أوصى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأهل البادية خيرا فقال للخليفة من بعده :
(أوصيك بأهل البادية خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام ) , وعن واقع البدو وحياة البادية يقول خادم
الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله ورعاه: (إن البدو نظيفو وطيبو
السريرة ومخلصون ويمكن التعلم منهم الرجولة والعطاء والفخر والكرم والحس الشعري),وبالرغم من
ازدياد نعيق الغربان وزعيق البهتان ,سيظل تاريخ القبائل مشرفا ومشرقا,يجسد الشيم والقيم ,ويمثل
المكارم والأصالة والنقاء ,ويترجم مضامين التضامن والولاء والوفاء ,ويرسخ الشعور بحب الوطن وروح
الانتماء .
ما في البداوة ذم يا هافـي السـاس= أصل العرب وأهل الفخر والنواميـس
تاريخهم مشهـود للنـاس نبـراس= وموثـق ٍ بقلـوب قبـل القراطيـس
يبقى منار ٍ ليـن دقـات الأجـراس= غصب ٍ على رموز الفتن زمرة إبليس