(161 ) مدار الأفكار
بضاعة القناعة
يقول الشاعر العربي :
هي القناعةُ فالزمها تعِش ملكـا= لو لم يكن منها إلا راحةُ البـدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعهـا=هل راح منها سوى القطن والكفنِ
إن القناعة نعمة عظيمة, وهبة جليلة كريمة, فهي تعني الرضا بما قسم الله تعالى للعبد، وعدم الحزن
على ما فات من الدنيا, وقد عرَّف بعض أرباب اللغة القناعة بالرضى، والقانع بالراضي,قال ابن فارس:
(قنع قناعة: إذا رضي، وسميت قناعة؛ لأنه يُقبل على الشيء الذي له راضياً ) , قال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ
صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( النحل
:97) ,وقد جاء في تفسير الطبري بأن الحياة الطيبة هي القناعة , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد
أفلح من أسلم ، ورزق كفافاً وقنّعه الله بما آتاه ), والكفاف : ما كف عن السؤال , وقال أيضا: ( طوبى لمن
هُديَ للإسلام ، وكان عيشه كفافاً ، وقنع ) , وقال صلى الله عليه وسلم : ( ليس الغنى كثرة العَرَض ، ولكن
الغنى غنى النفس ) ، وقال أيضا : ( ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ),وفي تفسير ذلك يقول النووي :
( ليس حقيقة الغنى كثرة المال ، لأن كثيراً ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع، فهو يجتهد في الازدياد، ولا
يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقيراً لشدة حرصه ، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس ، وهو من استغنى بما أوتي
وقنع به ، ورضي ولم يحرص على الازدياد ،ولا ألح في الطلب ، فكأنه غني ),وقال عمر بن الخطاب رضي
الله عنه : (أيها الناس ! : إن الطمع فقر ، وإن اليأس غنى ، وإن الإنسان إذا يئس من الشيء استغنى عنه) ,
و القناعة من علامات التقوى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تعريف التقوى : (هي الخوف من
الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل ), وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله
عنه: ( يا بني إذا طلبت الغنى، فاطلبه في القناعة، فإنها مال لا ينفد، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر، وعليك
باليأس، فإنك لم تيأس من شيء إلا أغناك الله عنه) , وقال الفضيل بن عياض : ( من رضي بما قسم الله
له بارك الله له فيه),وقال أبو حازم: ( ثلاث من كن فيه كمل عقله : من عرف نفسه ، وحفظ لسانه ، وقنع بما
رزقه الله عز وجل ) , وقال سليمان بن داود : ( قد جربنا العيش كله ، لينه من شديده ، فوجدناه يكفي أدناه )
,وقال ابن الجوزي رحمه الله : ( من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه) ,وقال الجاحظ: (إنما خالف الله
تعالى بين طبائع الناس ليوفق بينهم في مصالحهم، ولولا ذلك لاختاروا كلهم الملك والسياسة والتجارة
والفلاحة، وفي ذلك بطلان المصالح، وذهاب المعايش، فكل صنف من الناس مزين لهم ما هم فيه، فالحائك إذا
رأى من صاحبه تقصيرًا أو خلفًا قال: ويلك يا حجام، والحجام إذا رأى مثل ذلك من صاحبه قال: ويلك يا
حائك، فجعل الله تعالى الاختلاف سببًا للائتلاف، فسبحانه من مدبر قادر حكيم ) , و جاء في كتاب( كليلة
ودمنة) : إن من صفة الناسك السكينة لغلبة التواضع وإتيان القناعة ورفض الشهوات ليتخلى من الأحزان
وترك إخافة الناس لئلا يخافهم) ، وقيل في الحكم: (إن القناعة كنز لا يفنى ) ,ويقول أحد الحكماء : (أنت أخو
العز ما التحفت بالقناعة) , ويقول حكيم آخر : (أطول الناسِ همّاً الحسود ، وأهنأهم عيشاً القنوع), وجاء في
بعض الآثار: ( الرزق مقسوم ،والحريص محروم ، ابن آدم ! إذا أفنيت عمرك في طلب الدنيا فمتى تطلب
الآخرة ) , فالقناعة تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة,ولها فوائد عديدة
منها : ( إنها تملأ القلب بالإيمان بالله , وتسبب الفلاح والعز والحياة الطيبة ,وتحق شكر المنعم سبحانه وتعالى
, وتقي من الذنوب التي تفتك بالقلوب وتذهب الحسنات ,وتوجب محبة الله ومحبة الناس مصداقا لقول النبي
صلى الله عليه وسلم : (ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ) , وتعد القناعة من
هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد قال : ( اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ) , وقال
أيضا : (اعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) , ومما يؤسف له حقا أن جذوة
الإيمان قد خبت في قلوب البعض ممن طغى عليهم الطمع وحب الدنيا , ولن يتحقق علاج الطمع والجشع إلا
بإتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم والتحلي بالرضا والقناعة , فالإسلام لا يمنع من أن يملك الإنسان المال
، ولكنّه يمنع من أن يتملكه المال ، ويحل في قلبه لا في يده ، أما من ملك المال وأرضى به ربه ، فهذا ممن
مدح الله في كتابه ، ورسوله في سنته .حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : (نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ
الصَّالِحِ ) .
ترى القناعة كنز يا طيّب الفـال= فأحرص عليها يا حفيد المشاكيل
خل ّ الطمع لا يوهمك زايد المال= ترى غناة النفس رأس المحاصيل
عبد العزيز الفدغوش
الأحد , 25 أبريل 2010
.