( 149 ) مدار الأفكار
صناعة الإشاعة
يقول الإمام الشافعي :
لسانك لا تذكر به عورة امرئ= فكلك عورات وللنـاس ألْسُـن
وعيناك إن أبدت إليك مساوئًـا= فدَعْها وقل يا عين للناس أعين
إن الإشاعة ظاهرة سيئة ذات خطر عظيم،ووقع مدمر أليم، تطلق وتنتشر في كثير من المجتمعات ويعم شرها
العباد والبلاد، والإشاعة كما يعرّفها أرباب اللغة هي : (نقل الكلام من غير تثبّت وبثّـه وتفريقه دون ضابط
أو قيد )، وقيل هي الإظهار والنشر للأخبار التي لم يثبت صِدْقها بعد، ويُقال لها: الأراجيف، واحدها
إرجاف، وأصل الرَّجف الحركة والاضطراب، وقيل في تعريفها الاصطلاحي : (هي الأحاديث والأقوال
والأخبار التي يتناقلها الناس والقصص التي يرددونها دون التثبت من صحتها والتحقق من صدقها )، ويقول
ابن منظور في لسان العرب : ( شاعت القطرة من اللبن في الماء وتشيّعت تفرقت وشيع فيه أي تفرق فيه )،
وقال في مادة ( نمم ) : النمّ : التوريش والإغراء ورفع الحديث على وجه الإشاعة والإفساد )، ويدفع مُروّجي
الإشاعات- كما يقول الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السحيم - عدّة دوافع تتخلص في : ( تحسين القبيح،
وتغيير الحقائق، وتنفير الناس من المصلحين، وذلك بتشويه سمعة الصالحين، والطعن في طُهر الطاهرين،
وخذلان الجيوش وإسقاط رموز الأمة، وفتّ عضدها، والتساوي في السقوط بالرذيلة، وإزجاء المجالس
بالأحاديث الغريبة التي لم يسمع بها أحد ! )، ويُعدّ إبليس أول من روّج الإشاعات الكاذبة تحت مُسميات
برّاقة، لتحسين القبيح والترويج له وتلميع صورة ما يدعو إليه، وقد دخل على آدم وزوجه من الباب الذي
تُحبه النفوس وهو الخلد في الدنيا والملك فيها، قال تعالى : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ
عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ ِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ *
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ
عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ )
( الأعراف : 20-22 )،و قد تعرّض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى كثير من الإشاعات والأقاويل، فما
مِن نبيّ إلا وأشيع ضده ما أشيع، من اتهام له في عرضه أو في دينه أو في أهله، ورغم أن الإسلام يُرخّص
في الإشاعة بحال الحرب خذلانا للعدو إلا أنه يرفضها فيما عدا ذلك لما لها من آثار سيئة ومُدمّرة تتمثل في
تضليل الرأي العام، والفتنة بين الناس، وبلبلة الأفكار،و تحطيم معنويات الجيوش خاصة في الحروب،
والطعن في طُهر الصالحين، ونقاء المصلحين، والخوض في أعراض عباد الله بغير بيّنة،و إسقاط رموز
الأمة وبث عدم الثقة بعلمائها )، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) ( الحجرات : 6 )، وقال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) (الجاثية:7)،
والأفاك هو الكذاب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة
الخبال حتى يخرج مما قال)، وقال عليه الصلاة والسلام : (بئس مطية الرجل : زعموا )، وقال أيضا : (كفى
بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)، ويقول سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية رئيس هيئة كبار
العلماء وإدارات البحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ عن خطر الإشاعة
على الفرد والمجتمع : (إن خطر الشائعات وأثرها سيئ على الفرد والمجتمع وعلى المصالح الخاصة
والعامة،و معنى الشيوع نشر الشىء وإظهاره حتى يشيع بين الناس ويعرفه من كان جاهلا به، وهذه
الإشاعات في الغالب عليها أنها تستعمل في نشر أخبار غير لائقة وبث أقوال غير صادقة وإرجاف
بالأمة وفت في عضدها وإضعاف لعزائمها والإشاعات قديمة وليس حديثة اليوم لكنها تتفاوت من زمن إلى
آخر وقد ذكر الله في كتابه قصص أنبيائه ورسله كيف أشاع عنهم أقوامهم ما ليس لائقا بالأنبياء(، فالإشاعة
بضاعة شيطانية وهي باقية إلى قيام الساعة وأكثر ما يزيد من خطورتها هو احتمالها للصحة بنفس قدر
احتمالها للخطأ وذلك عند بداية تداولها، فحتى لو علم الناس أن تلك المعلومة (غير مؤكدة) تبقى جملة عالقة
في أذهانهم وهي أنها (قد تكون صحيحة) مما قد يحملهم في بعض الأحيان على اتخاذ قرارات وخطوات قد
تكون مصيرية بسبب تلك الإشاعة فكم من الشركات أفلست وكم من البيوت دمرت وكم من العلاقات
الاجتماعية أفسدت بسبب ذلك الوباء الذي يسمى بالإشاعة، وتساهم بعض وسائل الإعلام المنحرفة في نشر
وترويج الشائعات السيئة المغرضة المفرقة لكيان المجتمع ووحدة الأمة مُستغلين بذلك مبدأ الحرية استغلالاً
سيئًا، وأكثر ما يحمل على الإشاعة الكراهية لمن يُشاع عنه، أو حُب الظهور بالسبق إلى معرفة ما لا يعرفه
الغير، أو التسلية أو التنفيس عن النفس فيما حُرِمَتْ منه، وتكثر أيام الأزمات السياسية والاقتصادية حيث
يكون الجو ملائمًا لرواجها،ولكن يمكن التصدي لها من خلال التثبت من الأخبار وتوضيح الحقائق، وزيادة
الوعي والابتعاد عن مواطن التّهم وإحسان الظن بالمسلمين، وعدم ترديد الشائعات وحصرها في أضيق
الحدود وإرجاع قضايا الأمة المصيرية إلى أربابها من ذوي البصر والبصيرة،والعقول المستقيمة المستنيرة.
يا مروّج ٍ بين الورى للإشاعـة= وآثارها في كل حـال ٍ شنيعـة
صناعة الشيطان بئس البضاعة= والخير في هدي النبي والشريعة