كان من جلال قدرة الله، ومن رأفة الله بعباده المسلمين والمؤمنين في هذه الليلة المباركة ليلة النصف من شعبان التي فيها أكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق له القمر نصفين وهو في مكة، آية للكافرين ومعجزة للمبعدين، وكان من كرم الله عليه في المدينة أن حوّل له القبلة في هذا اليوم من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة قبلة إبراهيم عليه السلام ، فأرضاه وقال له:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} البقرة144
وأكرمه في هذه الليلة بقبول شفاعته في الأمة كلها صغيرها وكبيرها، صالحها وطالحها، برّها وفاجرها، لأنه صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة والنعمة المسداة لجميع خلق الله، فلله دَرّ رجال تابوا إلى الله وأكثروا من أعمال التائبين، ومن أحوال المنيبين وحَلّوا أنفسهم بحلة الخاشين الخاشعين لله ربِّ العالمين
فإذا أتت ليلة النصف من شعبان فهموا الإشارة من تحويل القبلة وهي أن الإنسان إذا كان طوال العام قبلته دنياه أو قبلته حظه وهواه أو قبلته شهواته ومطامعه أو قبلته آماله الفانية الكاسدة أو همُّه كله العلو في الأرض بغير الحق، فبعد نصف شعبان يتجه بالكلية إلى حضرة الديان استعداداً
لشهر رمضان لأنه شهر الكرم وشهر الجود وشهر الخيرات لمن استعد له قبله بقليل
والرسول صلى الله عليه وسلم كان
يستعد لرمضان من بداية شعبان، وأصحابه أيضاً كانوا كذلك، الخاصة منهم يقول فيهم أنس بن مالك رضي الله عنه:
{كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظروا إلى هلال شهر شعبان أخرجوا زكاة أموالهم ليتقوى بها الفقير والمسكين على صيام شهر رمضان، ونظر الولاة إلى أهل السجن فمن كان عليه حدّ أقاموه وإلا خلّوا سبيله، وأحضر التجار تجاراتهم ليتفرغوا في شهر رمضان لطاعة ربهم ولمتابعة نبيهم، وأقبل الآخرون على المصاحف يتلونها، فإذا نظروا إلى هلال شهر رمضان اغتسلوا واعتكفوا وأكبّوا على العبادة}.
وقد كان الإمام الشافعي والإمام مالك رضي الله عنهما يواصلان الدروس بالليل والنهار، فقد كان الإمام الشافعي يبدأ دروسه مع شروق الشمس فيعطي درساً للتفسير، ثم درساً لأصول الفقه، ثم درساً للحديث، ثم درساً للتجويد وعلوم القراءات، ويظل حتى صلاة الظهر في تدريسه لطوائف الدارسين والتلاميذ والسالكين والمريدين، والإمام مالك كان كذلك، فإذا جاء شهر
رمضان غلقوا كتب العلم وأنهوا حلقات الدرس وأقبلوا على عبادة الله فكان الشافعي رضي الله عنه يختم في شهر
رمضان ستين ختمة لكتاب الله، ثلاثين ختمة بالنهار، وثلاثين ختمة بالليل، كل نهار يصعد منه لله ختمة، وكل ليلة يصعد منه لله ختمة لكتاب الله.
كيف يقومون بذلك؟ يستعدون من قبل ذلك. نحن نستعد بتجهيز التمر وتجهيز المأكولات وإحضار المشروبات، وجعلناه شهر المطعومات والمأكولات ونسينا أنه شهر العبادات والطاعات والقربات، فأخطأنا طريق سلفنا الصالح، فإذا جئنا إلى
رمضان لا نستطيع أن نصلي القيام من التخمة التي حدثت لبطوننا عند الإفطار، بل إن أخلاقنا تتغير في نهار
رمضان لأننا لم نتعود على الصيام في شهر شعبان، فنخرج عن أطوارنا ونفعل ما يغضب ربنا، وإذا عاتبنا أحد تعللنا بأننا صائمين. ما هكذا الحال يا جماعة المؤمنين؟
إن نبيكم الكريم كان
يستعد لشهر رمضان بتدريب نفسه على الصيام في شعبان، وتدريب نفسه على القيام في شعبان، استعداداً لصيام وقيام شهر
رمضان وما فعل ذلك إلا ليعلمنا وينبهنا على كيفية الاستعداد
لشهر رمضان.
فعلينا أن نمرِّن أنفسنا من الآن فيقوم الإنسان مثلاً بعد صلاة المغرب من الآن فيصلي ست ركعات لله بدلاً من ركعتين وقد قال صلى الله عليه وسلم:
{مَنْ صَلَّى? سِتَّ رَكَعَاتٍ بَعْدَ الْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ غُفِرَ لَهُ بِهَا ذُنُوبِ خَمْسِينَ سَنَةً}{1}
فإذا جاء شهر
رمضان كانت صلاة القيام بالنسبة لنا هيّنة لينة
{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ{45} الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ{46} البقرة
يصوم الإنسان بعض الأيام ويقلل الطعام في الأيام التي ليس فيها صيام ليتدرب على الصيام، فإذا كان شهر
رمضان لم تتغير حالته، ولم تتبدل هيئته. فإذا كان يأكل في الوجبة الآن رغيفين ينقصهم رويداً رويداً، ففي اليوم الأول ينقص ربع رغيف وفي الثاني نصف رغيف وفي الثالث ثلاثة أرباع رغيف، وفي اليوم الرابع يكتفى برغيف واحد ويواظب على ذلك إلى بداية شهر رمضان
وإذا كان يشرب في اليوم خمس مرات مثلاً، فلا يشرب إلا مرتين لأن الشراب يتعلق بكمية الطعام التي تدخل في المعدة، وإذا كان يدخن السجائر أو الشيشة أو يشرب الشاي بكثرة أو غيرها يخفف منه من الآن استعداداً
لشهر رمضان، إذا استطاع أن ينتهي منها فبها ونعمت وقد صار من عباد الله الصالحين، وإن لم يستطع يخفف قدر استطاعته، إذا كان يدخن في اليوم علبة سجائر يجعلها نصف علبة ثم بعد ذلك في اليوم ثلاث مرات فقط ثم مرة واحدة فقط، ثم يمنعها بالكلية فإنها شرّ وبلية على الجيوب وعلى الأجسام وعلى الإنسان في كل أحواله، ليس منها ولا فيها خير قط لبشر يشربها.
وهكذا يتدرب الإنسان على الاستعداد
لشهر رمضان، بالإكثار من صلوات النوافل استعداداً لصلاة القيام، ويتدرب بالصيام والتقليل من الطعام استعداداً للصيام، ويتدرب على الكف عما ألفته النفس من الشهوات والحظوظ والملذات، ليعتاد الصيام والقيام، ويتدرب بعد ذلك على الأهم على تحسين أخلاقه فلا يخرج منه إلا القول المليح، وينهى نفسه عن الغي والقبيح، ذلك هو الاستعداد الحقيقي
لشهر رمضان