انشغل العباد بالعبادات ؛ طلباً للمنازل العالية في جنة الله ورضوان الله ، وانشغل العلماء العاملون والعارفون والصالحون بجهاد غيرهم ليسوقوهم إلى رب
العالمين عز وجل ، وتلكمُ هي دعوة النبيين وتلكمُ هي رسـالة المرسلـين أجمعين في كل وقت وحين
وهكذا كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولذلك أكرمهم الكريم بما يحتاجون له من معدات لتطهير النفوس ومن آلات لتنقية
القلوب ومن علوم ليجذبوا المبعدين والمبغضين والعصاة والمذنبين إلى رب
العالمين ، عـــلوماً ترقق
القلوب وتأخذها إلى الله عز وجل
أعطاهم الله عز وجل أحوالاً تجعل الرجل منهم إذا نظر إلى عاصٍ - وهو من رأسه إلى أخمص قدميه في المعاصي - وقال : يا رب تب عليه من أجلي يستجيب الله دعاءه ، ويتوب عليه في الحال
جعلوا دعاءهم ليس لأنفسهم لتكثير خيرهم من الدنيا ؛ لأنهم علموا أن أمر الدنيا قد انتهى منه الله قبل خلق آدم بألفي عام كما ورد فى الأثر
{إن الله خلق الخلقَ ، وخلق الأرضَ ، وقدَّرَفيها أقواتها ، قبل خلق آدم بألفي عام}
ولم يجعلوا دعائهم لأولادهم ، وبناتهم ، وزوجاتهم ؛ وإنما خصوا بدعائهم العصاة والمذنبين والغافلين والبعيدين عن طريق رب
العالمين ؛ لأنهم علموا أن هؤلاء يحبُّ الله عز وجل أن يرجعوا إليه
سمعوه عزَّ شأنه وهو يقول كما ورد فى الأثر إذا تاب العبد:
" بشرى يا ملائكتي ، فقد اصطلح عبدي معي ، افتحوا أبواب السموات لقبول توبته ، ولدخول أنفاس حضرته ، فلنـفس العبد التائب عنـــدي يا ملائكــــتي أعزُّ من الســــــموات والأراضين ، ومن فيهن "
فاشتغلوا بهذه التجارة ونعم التجارة يقول فيها النبي المختار صلى الله عليه وسلم:
{لأن يهديَ بك اللهُ رجلاً واحداً ؛ خيرٌ لك من حُمر النَعَم}{1}
ويقول صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى :
{لأن يهدي بك الله رجلاً واحداً ؛ خيرٌ مما طلعت عليه الشمس أو غربت}
ويكفيك قوله صلوات ربي وتسليماته عليه :
{الدَّالُ على الخيرِ كفاعله}{2}
كلما قرَّبت إلى حضرة الله عبداً صار لك مثل أجره ، ورُفِع لك عند الله عز وجل مثل حسناته ؛ لأنك سبب في توبته إلى الله ورجوعه إلى الله
{من سنَّ سُنَّةً حسنة ؛ فله أجرها ، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة}{3}
فساروا على هذا الدرب ؛ ففتح الله لهم في قلوبهم علوماً غيبية وإلهامات نورانية يقول فيها عز وجل في محكم الآيات القرآنية
{آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} الكهف65
من الذي يُعَّلِم هنا؟ الله عز وجل ، من الذي علَّم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أجمعين؟ الله عز وجل ، ونبيه صلى الله عليه وسلم ، ولما خرجوا لله وصدقوا ما عاهدوا عليه الله ونذروا أنفسهـــــــم لله جعلهم الله عز وجل في الدنيا سادة وقادة وأئمة ومكَّن لهم في الأرض ، وأجرى على أيديهم الآيات - مع أنهم ليسوا طالبيها أو راغبين فيها - وإنما أجراها الله على أيديهم ؛ لأنه علم حرصهم على تبليغ دعوة الله عز وجل
ما الآيات؟ وما الكرامات؟ إنها تأييد من الله عز وجل لعباده الصالحين ؛ لأنهم يريدون أمراً يرضي رب
العالمين فلذلك يؤيدهم الله بمدد من عنده وجند من جنده ، ومثل هذا الباب لو فتحناه - بالنسبة للأصحاب - يتوه فيه اللبيب الفصيح
يذهب الرجل ليؤدي رسالة عن الحَبيب صلى الله عليه وسلم - وهو سيدنا سفينة - فيجد القوم يرجعون مسرعين ، فيسألهم ، فيقولون : أن هناك أسداً جائعاً على الطريق ، فيقول لهم : تعالوا معي ولا تخشوا شراً ، ويذهب إلى الأسد ، ويقول له بلغته العربية - ومن المترجم الذي ترجمها إلى اللغة الأسدية ، واعقل وافهم؟
أيها الأسد معي رســالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بتبليغها ،فبصبص الأسد ، وهزَّ ذيله ، ثم تنحَّى عن الطريق ، لأنه خاطبه بنيته ، ولأنه كان يريد أن يبلِّغ ما كلَّفه به حَبيب الله ومُصطفاه
هذه آيةٌ أجراها الله لرجل من أهل العناية ؛ لأن غايته تبليغ دعوة الله ، لا يريد بها شهرة ولا ظهوراً ولا أن يسوق الناس عنه أحاديث ويروون عنه كرامات ، وإنما كل همِّه أن يبلِّغ دعوة سيد السادات ، فجعل الله عز وجل كل ما في الأرض رهن إشارتهم وطوع أمرهم وراثة للحَبيب المختار صلى الله عليه وسلم