( 125 ) مدار الأفكار
الشاعر الثائر
يقول الشاعر العربي :
سأصحب آمالي إلى ابن مقلـدٍ= فتنجح وما ألوى الزمان بصاحبِ
فما اشتطت الآمـال إلا أباحهـا= سماح عليٍ حكمها في المذاهبِ
في 15 نوفمبر أي في مثل هذا اليوم من عام 1188م رحل عن دنيا العناء والفناء الشاعر الثائر
والأمير الفارس أسامة بن منقذ أحد أبطال الحروب الصليبيّة وأحد أعظم من جاد بهم الزمان على العالم
العربي و الإسلامي من عقول مفكّرة و شخصيّات يندر أن تتكرر, فهو مؤيد الدولة أبو المظفر أسامة بن
مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ المولود بتاريخ 4 يوليو 1095م في شيزر وهي مدينة تقع في
شمال غرب حماة و تبعد عنها نحو 15 ميلاً, وفيها قلعة حصينة, كان لها دور كبير في أثناء الحروب
الصليبية , نشأ أسامة نشأة صالحة فدرس الحديث والفقه والأدب والنحو واللغة, وحفظ كثيراً من الشعر
وجيد الكلام. وكان يحب الصيد ويمارسه كثيراً وقد تدرب منذ الصغر على الفروسية والعسكرية ,وعاصر
حملتين صليبيتين , واشترك خلال حياته المديدة بعدد من المعارك يناهز العشرين معركة , و كان عمه
أبو العساكر سلطان هو صاحب شيزر وأميرها , وبعد وفاة والده التحق أسامة بجيش نور الدين زنكي،
وعاش في دمشق من عام( 1138إلى 1144م)، ثم انتقل إلى القاهرة حيث اشترك في الحملات ضد
الصليبيين في فلسطين و منها عاد إلى دمشق سنة 1154م. ويعد أسامة بن منقذ من فرسان الإسلام
الأعلام ،وبطل من أبطال الوغى ، وأمير من أمراء العرب الأخيار ، وشاعر من شعراء الدهر الحكماء ،
وكريم من سادات الكرم و في طليعة رجال عصره أدباً وتصنيفاً، وممارسة لألوان النشاط السياسية في
المحيط الذي عاش فيه ,وقد أغرم بالأدب شعره ونثره، ونهل منه حتى ارتوى، ووجد في الشعر متنفساً
يترجم به عن عواطفه، ويسجل فيه حسه ومشاعره، ازاء ما كان يمر به من أحداث عنيفة، كانت تدفعه إلى
القول دفعاً، وقد كتب عن بقائه على قيد الحياة إلى أن بلغ من الكبر عتيا على الرغم من تعرضه لمختلف
الأخطار في المعارك التي خاضها فقال: ( لا يظنن ظان أن الموت يقدمه ركوب الخطر, أو يؤخره شدة
الحذر,ففي بقائي أوضح معتبر, فكم لاقيت الفرسان وقتلت الأسود وضربت بالسيوف وطعنت بالرماح
وجرحت بالسهام , وأنا من الأجل في حصن حصين إلى أن بلغت تمام التسعين ), وفي آخر حياته عكف
على التأليف والتصنيف فصنف كتبا عديدة منها : (كتاب الاعتبار , لباب الآداب , كتاب العصا, كتاب البديع
,المنازل والديار , مختصر مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب, مختصر مناقب أمير المؤمنين عمر بن
عبد العزيز , تاريخ القلاع والحصون ,أخبار النساء, التاريخ البدري (من شهد بدراً من المسلمين والكفار)
, التجائر المربحة , المساعي المنجحة ,النوم والأحلام , الشيب والشباب, التأسي والتسلي , ذيل يتيمة
الدهر, أزهار الأنهار , نصيحة الرعاة و ديوان شعر ضم قصائده ) ,ومن يتتبع أعماله يجد سمو الهمة ،
ودثار الحكمة ، وشموخ النفس ، ونبرة الاعتزاز وقد ترجمت كثير من كتبه إلى الإنجليزية والفرنسية
والألمانية والروسية وغيرها , وكان أسامة صديقا لفضلاء عصره من الأمراء والأدباء كعماد الدين زنكي
وابنه نور الدين وكذلك صلاح الدين الأيوبي , فكان يحارب مع الأمراء و يساجل مع الأدباء , وقد أشاد
كثير من الأدباء بأدب وشعر وشخصية أسامة :فيقول العماد الأصفهاني في الخريدة : ( أسامة
كاسمه في قوة نثره ونظمه , يلوح من كلامه أمارة الإمارة , ندي الندي بماء الفكاهة ,عالي النجم في
سماء النباهة ) , ويقول ابن عساكر في تاريخه : (لأسامة يد بيضاء في الأدب والشعر, إنه شاعر الدهر
ومالك عنان النظم والنثر) ,وقال ابن كثير في البداية والنهاية: ( أسامة هو أحد الشعراء المشهورين
والأمراء المشكورين, كان عمره تاريخا مستقلا وحده , لديه علم غزير وعنده جود وفضل كثير) , وبعد
حياة حافلة بالجهاد والعلم والأدب توفي أسامة بن منقذ - رحمه الله - في 23 رمضان سنة584هـ
الموافق 15 نوفمبر 1188م وقد قارب المائة, ودفن في سفح جبل قاسيون بدمشق, بعد أن أقر الله عينه
بتحرير القدس والمسجد الأقصى ومعظم المدن في فلسطين على يد القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه
الله الذي دخل بجيش بيت المقدس سنة (583هـ- 1188م) رافعًا رايات النصر والتوحيد مكبرًا, ظافرًا منتصرًا.
الله يبيحك يـا أسامـة ويجـزاك= خير الجزاء يا نادر ٍ في مراميـك
على المعالي سرت بإرشاد مولاك= وبين القلم والسيف عمت حسانيك
يا ثائر ٍ ما هبت غبـات الإدراك=يا شاعر ٍ صغت الحكم في معانيك