ومما يستدل به مَنْ يقول: بجواز الخطأ عليه صلى الله عليه وسلم دون أن يُقِرَّ عليه قضية تأبير النخل وهي: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يلقحون النخل فقال (لو لم تفعلوا لصلح قال: فخرج شيصاً فمرَّ بهم صلى الله عليه وسلم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم) فمن هذا الحديث فَهِمَ بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يُخطيء في أمور الدنيا وراح يقول: أخطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا وأخطأ في كذا ولكن الحقَّ أحقّ أن يُتَّبع وذلك أن أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله يفسر بعضها بعضاً ويشبه بعضها بعضاً وأن الله حفظه عن الخطأ كما حفظه من الخطيئة فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: أنه صلى الله عليه وسلم قد نشأ في تلك الأراضي المباركة التي هي منابت النخيل وتربَّي بين قوم يعلمون فنون زرع النخيل وما يتطلبه من عنايات ولقاحات وكيف يتصور في حقِّه صلى الله عليه وسلم أن تخفي عليه تلك العادة المطردة في إنتاج النخيل ولزوم التلقيح له بموجب الأصول الزراعية؟ في حين أن ذلك ليس من خفايا معلومات الزراعة لشجر النخيل ولا من غوامضها إذاً لابد وأنه يعلم ذلك كما يعلمون ولكن أراد أن يُظهر لهم أمراً لا يستطيعون نيله بأنفسهـم
ثانياً: أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي نال من العلوم ما نال وأفاض الله عليه ما أفاض حتي أنه ذكر للصحابة وبحث لهم في كل شيء كما روي الطبراني عن أبي ذر قال (تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلاَّ ذكر لنا منه علماً) فكيف يتصور أن يخفي عليه صلى الله عليه وسلم أن النخيل لا يحتاج إلى تلقيح بمقتضي العادة في علم الزراعة؟ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أمراً آخر
ثالثاً: أن الذي يدلُّنا على ذلك الأمر الذي أراده صلى الله عليه وسلم هو النظر في أشباه هذه الواقعة الصادرة منه صلى الله عليه وسلم ومن ذلك حديث (ناولني الذراع) ففي المسند عن أبي رافع القبطي مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صُنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاةً مُصلية فأتي بها فقال (يا أبا رافع ناولني الذراع) فناولته ثم قال (ناولني الذراع) فناولته ثم قال (ناولني الذراع) فقلت: يا رسول الله هل للشاة إلا ذراعان؟ فقال صلى الله عليه وسلم (لو سَكَتَّ لناولتني منها ذراعاً ما دعوت به) قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الذراع قال في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني من طرق وقال في بعضها (أمرني رسول الله أن أُصلِيَ له شاةً فصليتها) ورواه في الأوسط بإختصار وأحد إسنادي أحمد حسن
وعن أبي عبيدة أنه طُبخ لرسول الله صلى الله عليه وسلم قِدْراً فيها لحمٌ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ناولني ذراعها) فناولته فقال (ناولني ذراعها) فناولته فقال (ناولني ذراعها) فقلت: يا نبي الله كم للشاة من ذراع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لو سَكَتَّ لأعطيت ذراعاً ما دعوتُ به) وهذه القصة غير التي تقدمت كما نبَّه عليه الحافظ الزرقاني وغيره وفي مجمع الزوائد عن ابن إسحاق قال: حدثني رجل من بني غفار في مجلس سالم بن عبد الله قال: حدثني فلان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بطعام خبز ولحم فقال:(ناولني الذراع) فنُوول ذراعاً فأكله ثم قال: (ناولني الذراع) فنوول ذراعاً فأكله ثم قال (ناولني الذراع) فقال: يا رسول الله إنما هما ذراعان فقال: (وأبيك لو سَكَتَّ ما زلتُ أُنَاوَلُ منها ذراعاً ما دعوتُ به) قال: ورواه أحمد وفيه راو لم يسـم
فقوله صلى الله عليه وسلم (ناولني الذراع) في المرة الثالثة مع العلم أن الشاة لها ذراعان إنما أراد أن يُظهر أمراً مُعجزاً فيه الإكرام وفيه البرهان وفيه الإشهاد بالعيان ولكن لمَّا لم يجد محلاً قابلاً لم تظهر تلك المعجزة ولذلك قال الحافظ الزرقاني عند قوله صلى الله عليه وسلم (أما أنك لو سَكَتَّ لناولتني ذراعاً فذراعاً ما سَكَتَّ) أي مدة سكوتك لأنه سبحانه يخلق ذراعاً معجزة له صلى الله عليه وسلم فَحَمَلَتْ المُنَاوِلَ عجلتُه المركَّبة في الإنسان على قوله: إنما للشاة ذراعان فانقطع المدد لأنه إنما كان من مدد الكريم سبحانه إكراماً لخلاصة خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم فلو تلقَّاه المُنَاوِلُ بالأدب ساكتاً مُصغيًّا إلى ذلك العجب لكان شكراً منه مقتضياً لتشريفه بإجراء هذا المدد على يديه ولكنه تلقاه بصورة الإنكار فرجع الكَرَمُ مُوَلِّياً لمَّا لم يجد قابلاً إذ لا تليق مشاهدة هذه المعجزة العظيمة – التي في شهودها نوعُ تشريفٍ للمطلع عليها – إلاَّ لمَنْ كَمُلَ تَسْلِيمُه ولم يبق فيه أدني حظٍّ ولا إرادة
وهكذا في حادثة تأبير النخل لمَّا مرَّ صلى الله عليه وسلم بقوم يؤبرون النخل أراد أن يُكرمهم ويُتحفهم وأن يُظهر لهم معجزة خارقة للعادة المطردة في إصلاح النخل بالتأبير فيكرمهم خاصةً بصلاحه دون تأبير إذ هو صلى الله عليه وسلم ممن يعلم بموجب العادة حاجة النخيل إلى تأبير كما يعلمون لأنه صلى الله عليه وسلم بينهم مطلعٌ على أمورهم ولكن لما لم تقبل قلوب بعض أولئك النفر ولم تستسلم كل الاستسلام إلى قوله صلى الله عليه وسلم (لو لم تفعلوا - أي التأبير – لصلح) بل وقفوا عند معلوماتهم الدنيوية المطردة في فن زراعة النخيل وأن صلاحه موقوف على التأبير فلم يلق الكرم محلاً قابلاً فرجع ولذلك ردَّهم صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلى الأسباب - المعتادة لديهم المعلومة عندهم التي وقفوا عندها ولم يجاوزوها فقال لهم (أنتم أعلم بأمور دنياكم) أي فارجعوا إلى العمل بموجب علمكم بأمور دنياكـم
ويشهد لصحة ما قلناه وصواب ما فهمناه من أنه صلى الله عليه وسلم لم يخطيء في ذلك قول الشيخ ابن المبارك : سألت أحد الصالحين عن حديث تأبير النخل – الذي هو في صحيح مسلم حيث (مرَّ عليهم وهم يؤبرون النخل فقال عليه الصلاة والسلام ما هذا؟ فقالوا: بهذا تصلح يا رسول الله فقال: لو لم تفعلوا لصلحت فلم يؤبروها فجاءت شيصاً غير صالحة فلما رآها عليه الصلاة والسلام بعد ذلك قال (ما بال هذا التمر هكذا؟ قالوا: يا رسول الله قلت لنا كذا وكذا فقال صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بدناكم) - فقال الرجل الصالح : قوله صلى الله عليه وسلم (لو لم تفعلوا لصلحت) كلامُ حقّ وقول صدق وقد خرج منه هذا الكلام على ما عنده من الجزم واليقين بأنه تعالى هو الفاعل بالإطلاق وذلك الجزم مبنيٌّ على مشاهدة سريان فعله تعالى في سائر الممكنات مباشرة بلا واسطة ولا سبب بحيث أنه لا تسكن ذرة ولا تتحرك شعرة ولا يخفق قلب ولا يضرب عرق ولا تطرف عين ولا يوميء صاحب إلا وهو تعالى فاعله مباشرة من غير واسطة وهذا أمر يشاهده النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كما يشاهد غيره من سائر المحسوسـات ولا يغيب ذلك عن نظره - لا في اليقظة ولا في المنام - لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينام قلبه (الذي فيه هذه المشاهدة)
ولاشك أن صاحب هذه المشاهدة تطيح الأسباب من نظره ويترقي عن الإيمان بالغيب إلى الشهود والعيان فعنده في قوله تبارك وتعالي {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} مشاهدة دائمة لا تغيب ويقين يناسب هذه المشاهدة وهو أن يجزم بمعني الآية جزماً لا يخطر معه بالبال نسبة الفعل إلى غيره تعالى ولو كان هذا الخاطر قدر رأس نملة ولاشك أن الجزم الذي يكون على هذه الصفة تخرق به العوائد وتنفعل به الأشياء وهو سرُّ الله تعالى الذي لا يبقي معه سبب ولا واسطة فصاحب هذا المقام إذا أشار إلى سقوط الأسباب ونسبة الفعل إلى ربِّ الأرباب كان قوله حقًّا وكلامه صدقاً وأما صاحب الإيمان بالغيب فليس عنده في قوله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} مشاهدة بل إنما يشاهد نسبة الأفعال إلى مَنْ ظهرت على يده ولا يجذبه إلى معني الآية ونسبة الفعل إليه تعالى بالإيمان الذي وهبه الله تعالى له فعنده جاذبان: أحدهما من ربَّه وهو الإيمان الذي يجذبه إلى الحق وثانيهما من طبعه وهو مشاهدة الفعل من الغير الذي يجذبه إلى الباطل
فهو بين هذين الأمرين دائماً لكن تارة يقوي الجاذب الإيماني فتجده يستحضر معني الآية السابقة ساعة وساعتين وتارة يقوي الجانب الطبعي فنجده يغفل عن معناها اليوم واليومين وفي أوقات الغفلة ينتفي اليقين الخارق للسعادة فلهذا لم يقع ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم لأن أولئك النفر من الصحابة رضي الله عنهم فاتَهُم اليقين الخارق وقتئذٍ الذي اشتمل عليه باطنه صلى الله عليه وسلم وبحسبه خرج كلامه الحقّ وقوله الصدق ولما عَلِمَ العلَّة في عدم وقوع ما ذكر وعَلِمَ أن زوال تلك العلة ليس في طوقهم رضي الله عنهم أبقاهم على حالتهم وقال (أنتم أعلم بأمور دنياكم)
وعلي كل حال فإنه لا يقال أخطأ صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل كما لا يقال أنه صلى الله عليه وسلم أخطأ في قوله لأبي عبيدة (ناولني الذراع) في المرة الثالثة فإن ذلك ليس من باب الخطأ بل من باب الصواب وإرادة الإكرام والإتحاف لأولئك النفر بأمرٍ فيه اليُمن والبركة على وجهٍ خارق للعادة ولكن تخلَّف ذلك لوجود المانع والعارض ونظير هذا انقطاع مددُ الإكرام والبركة في ظرف السمن الذي بارك فيه النبي صلى الله عليه وسلم لما عصرته أم مالك كما جاء في صحيح مسلم وغيره عن جابر (أن أم مالك الأنصارية كانت تهدي النبي صلى الله عليه وسلم من عكة لها سمناً فيأتيها بنوها فيسألونها الأدم – وفي رواية – فيسألون السمن وليس عندهم شيء فتعمد - أي تقصد - إلى الظرف الذي كانت تهدي فيه فتجد فيه سمناً فمازال يقيم لها أدم بيتها حتي عصرته - أي عصرت الظرف - فنفذ السمن فأتتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم - أي ذكرتْ له ذلك – فقال: عصرتيها؟ قالت: نعم فقال: لو تركتيها ما زال - أي السمن - قائماً)
وروي مسلم عن جابر أن رجلاً من أهل البادية أتي النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه فأطعمه شطر وسق من شعير فمازال يأكل منه وامرأته وضيفهما - أي أضيافهما الذين ينزلون عندهما حتي كاله - أي فنقص فأتي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له (لو لم تكله لأكلتم منه دائماً حتي يكفيكم وأقام لكم - أي مدة الحياة - من غير نقص) فالكيل العارض منع المدد الفائض وقد بين الإمام النووي حكمة ذلك حيث قال العلماء: الحكمة في ذلك أن عَصْرَهَا وكَيْلَهُ مضادة للتسليم والتوكل على رزق الله ويتضمن التدبير والأخذ بالحول والقوة وتكلف الإحاطة بأسرار حكم الله وفضله فعُوقب فاعله بزواله قال الحافظ الزرقاني: ولا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم (كِيلُوا طعامكم يبارك لكم فيه) لأنه فيمن يخشي الخيانة أو كيلوا ما تخرجونه للنفقة لئلا يخرج أكثر من الحاجة أو أقل أو كيلوا عند الشراء أو عند إدخاله المنزل
http://www.fawzyabuzeid.com/table_bo...82&id=91&cat=4
منقول من كتاب [الكمالات المحمدية]
اضغط هنا لتحميل الكتاب مجاناً
rqdm jHfdv hgkog hgk[l jHedv rqdm