( 99 ) مدار الأفكار
ضباب الأنساب
يقول الشاعر العربي:
عليكم بأنساب القبائـل كلهـا=معدّ وقحطان الكريـم نصابهـا
فإن بها إيصال مـا الله آمـر= بإيصاله فاسعوا وروموا طلابها
النسب في كتب اللغة مطلق الوصلة بالقرابة، فيقال بينهما نسب أي قرابة، وجمعه أنساب، ونسبته وعزوته
إلى أبيه، وانتسب إليه بمعنى اعتزى، والنسيب من كان أصله ثابتا، وقد أولت الشريعة الإسلامية النسب مزيداً
من العناية، وأحاطته ببالغ الرعاية، ولا أدل على ذلك من جعله في طليعة الضروريات الخمس وهي: (الدين
والنفس والنسب والعقل والمال) والتي اتفقت الشرائع السماوية على وجوب حفظها ورعايتها، ويترتب على
معرفة النسب غايات كثيرة، وثمرات واضحة شهيرة من أهمها معرفة الرجل لقبيلته أو فخذه أو البطن الذي
يعود إليه أو الشعب الذي تنتسب إليه قبيلته، بعيدا عن التفاخر بالأحساب والطعن في الأنساب، قال الله تعالى:
«يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم»
(الحجرات: 13)، ولن يتحقق ذلك التعارف إلا بمعرفة الأنساب وحفظها عن الاشتباه والاختلاط.
ومن خلال معرفة النسب تتحقق صلة الرحم والتآخي والتآزر وكذلك يتم تحديد المواريث ومن هم الأحق بها
من جهة النسب، قال تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) (الأنفال: 75)، وقال النبي صلى الله عليه
وسلم: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في
الأثر)، وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه): لتعلموا أنسابكم ثم صلوا أرحامكم فإنه ليكون
بين الرجل وأخيه الشيء ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخل الرحم لأوزعه ذلك من انتهاكه)، وعن الصلة بين
الأنساب يقول ابن خلدون في مقدمته المشهورة: (إن صلة الرحم نزعة طبيعية في البشر إلا في الأقل ومن
صلتها: النعرة على ذوى القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة فإن القريب يجد في نفسه
غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويودّ لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك)، ويقول ابن
عبد ربه الأندلسي في كتابه (العقد الفريد): (من لم يعرف النسب لم يعرف الناس ومن لم يعرف الناس لم يُعد
من الناس)، ويقول سلمة العوتبي في كتاب الأنساب: (وقد حث أهل الأدب والفهم وذوو المروءة على تعليم
النسب والمعرفة ليحفظوا بذلك أنسابهم ويصلوا أرحامهم ويأتوا ما أمروا به وينتهوا عما نهوا عنه من سوء
الفعال وتجنب الأرذال والجهال فقد كانت العرب تحفظ أنسابها كحفظها أرواحها ما لم تحفظه أمة من الأمم
حتى إن الرجل منهم ليعلّم ولده نسبه كتعليمه بعض منافعه وهو فعلهم من قديم الدهر لئلاً يدخل الرجل منهم
في غير قومه ولا ينتسب إلى غير قبيلته ولا ينتمي إلى غير عشيرته حاطوا بذلك أحسابهم وحفظوا به أنسابهم
ولا يرى ذلك في غيرهم من الأمم حتى إن الرجل من غيرهم من الأمم يسأل عّما وراء أبيه فيبقى خجلا في
ما لا يعرفه ولا ينسبه ولست بواجد ذلك في أحد من العرب إلا من استنبط ومازج الأرذال وجهلة الناس ولام
فعله وساءت خليقته وجهل ما يأتيه وما يتقيه وحض النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده على تعليم
النسب ومعرفة العرب ليصلوا بذلك ما أمر الله به أن يوصل ويتقوا ما نهى الله عنه)، ويقول شهاب الدين
النويري في موسوعته (نهاية الأرب في فنون الأدب): (إن معرفة أنساب الأمم مما افتخرت به العرب على
العجم، لأنها احترزت على معرفة نسبها، وتمسكت بمتين حسبها، وعرفت جماهير قومها وشعبها، وأفصح
عن قبائلها لسان خطيبها وشاعرها، واتحدت برهطها وفصائلها وعشائرها، ومالت إلى أفخاذها وبطونها
وعمائرها، ونفت الدعي فيها ونطقت بمآثرها)، ورغم أن الإسلام حرم الادعاء الكاذب للنسب لقول النبي
صلى الله عليه وسلم: (كفر من تبرأ من نسبه وإن دق أو ادعى نسباً لا يعرف) إلا أن علم النسب قد ابتلي في
الوقت الحاضر بأقلام تمتهن - بلا خوف من الله عز وجل- الغش والتدليس والتزوير في الأنساب وفقا
للدوافع الدنيوية، والمنافع الشخصية، فتقوم وبمساعدة بعض المتنفذين والمستفيدين في القبيلة بالتطبيل وجذب
بعض العوائل والأسر غير معروفة النسب وإلحاقها دون أي دليل قاطع أو برهان ساطع بنسب قبائل كبرى
لها كيانها ومكانتها وتاريخها العريق مما دفع كثيراً من الأسر المتحضرة وغير المعروفة إلى ركوب الموجة
القبلية حتى تشعبت الأسرة الواحدة بالانتماء إلى أكثر من قبيلة فبينما يدعي أحد أفرادها بأنه ينتمي إلى قبيلة
معينة تجد شقيقه أو ابن عمه أو قريبه يدعي الانتساب إلى قبيلة أخرى، ورغم أهمية حفظ النسب وفق
الضوابط الشرعية والاجتماعية المرعية إلا أن تقوى الله تبقى هي سفينة النجاة وصمام الأمان وذخيرة الزاد،
وميزان أفضلية العباد قال تعالى: (و تزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) (البقرة: 197).
يا ابن العرب حذراك من خلط الأنساب= حتى يجي لـك بالمعالـي مواجيـب
ترى الردي لو عز ّ مجناه ما طـاب= وتبين بـه لـو زاد مالـه عذاريـب
روح الفخر من كف يمنـاك تنسـاب= وإلا النسب والمال ما يصنع الطيـب
عبدالعزيز الفدغوش