( 92 ) مدار الأفكار
عناء الأجراء
يقول الشاعر العربي:
إذا كنت في نعمة فارعها= فإن الذنوب تزيل النعـم
وحُطها بطاعة رب العباد= فرب العباد سريع النقـم
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والفقر يصلح عليه خلق كثير والغنى لا يصلح عليه إلا أقل منهم،
ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين لأن فتنة الفقر أهون، وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر، لكن لمّا
كان في السراء اللذة وفي الضراء الألم اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء»، ولقد قسم الله عز
وجل الأرزاق بعلمه، فأعطى من شاء بحكمته، ومنع من شاء بعدله، وجعل الناس لبعض سخريا، قال تعالى:
«نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا
وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (الزخرف: 32)، ولقد وسع الله أرزاق العباد في هذه الأيام وأغدق عليهم من
نعمه العظيمة، فقبل سنوات لا تتجاوز الثمانين عاما كانت هذه البلاد ـ كما يقول عبد الملك القاسم في رسالة
التوعية الموسومة «الخدم والأجراء» ـ بلاد جوع وخوف وأمراض وأوبئة، فأبدل الله حالها من فقر إلى
غنى، ومن خوف إلى أمن، ومن أمراض إلى صحة وعافية! ولو ذكر لأجدادنا أنه ستأتي سنوات يقدم إلينا
فيها من يكنس شوارعنا وينظف منازلنا ويحمل مخلفاتنا لما صدق العقل ذلك! ولكن الله عز وجل، وله الحكمة
البالغة، ساق لنا الخيرات، وجعل هذا البلد وافر الرزق ومحط الآمال. فندعو الله عز وجل أن يكون ذلك عونا
على طاعته وألا يكون استدراجا، فإن فتنة الغنى أشد من فتنة الفقر وأعظم، وقد وردت آيات كثيرة نصت
على الترف والمترفين وسوء ذلك على نفوس كثيرين، قال تعالى: «حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ
يَجْأَرُونَ» (المؤمنون: 64)، وقال جل وعلا: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا» (الإسراء: 16)، وقد يجعل الله عز وجل هذه النعم والخيرات استدراجا لمن عصاه
وخالف أمره، كما سمعنا عن أمم سابقة، ورأينا ذلك في أمم ودول معاصرة، قال تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ» (النحل: 112)، وزوال النعمة وتحولها سببه المعاصي والذنوب، وعدم الشكر والحمد
لصاحب الإحسان والفضل جل وعلا. ومما نراه من كفر النعمة منع الحقوق عن أهلها، وتأخير مستحقاتهم،
فلا يخلو رجل أو امرأة من أهل الخليج إلا وتحت أيديهم من الأجراء والخدم ما ابتلاه الله بهم، ومع كثرة
الخيرات تراهم يماطلون في إعطاء المساكين والأجراء حقوقهم وهي دريهمات قليلة فمنهم من يؤخر الراتب
شهورا عديدة، فضلا عن تحميلهم ما لا يطيقون وإرهاقهم بالعمل طوال اليوم فلا يرتاحون ولا يُعانون،
فليخف الله المماطلون وليتقوا عذابه، وليعلموا أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ولا تُرد، حتى إن
كانت من كافر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» وقال: «من
كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء، فليتحلله منها اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان
له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه»، وقال عليه
الصلاة والسلام: «أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»، وقال: «ولا تكلفوههم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما
يغلبهم فأعينوهم»، والسعادة كلها في إعطاء أهل الحقوق حقوقهم، والتخلص منها قبل يوم القيامة، وعن
الأجراء يقول الرسول الكريم: «نعم هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه
مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه». وقال: «ثلاثة أنا
خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل
ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره»، وتشير كثير من تقارير المنظمات الإنسانية إلى
معاناة الخدم والعمالة الوافدة في الخليج وازدياد سوء المعاملة والاضطهاد الذي أوصل كثيرا منها إلى
الانتحار ووضع حد لحياة البؤس والمرارة التي يعيشها الوافد بعد أن منى أسرته قبل سفره بالمال الوفير
والحياة الكريمة التي سيعود لهم بها بعد سنوات العمل، وتؤكد دراسة خليجية رسمية قدمت إلى وزراء
الشؤون الاجتماعية والعمل لدول الخليج أن ما يربو على مليونين من خدم المنازل في دول الخليج العربية
يمارسون أعمالهم بدون غطاء قانوني ويواجهون مشكلات متعددة في مقدمتها سوء المعاملة والانتهاكات
الجنسية، إضافة إلى عدم دفع الرواتب أو التأخر في دفعها، وأشارت الدراسة إلى أن العمالة المنزلية لا
تخضع لقانون العمل في أي من دول مجلس التعاون الخليجي الست، وأن أهم عوامل انتشار الخادمات في
الخليج هو خروج المرأة الخليجية للعمل وتدني أجور الخادمات وسهولة استقدامهن، إضافة إلى ما يتطلبه
استكمال متطلبات المكانة الاجتماعية لدى بعض الأسر خصوصا مع توفر الإمكانات المادية، ومما يؤرق
الإنسان ما يقرأه في الصحف اليومية من أخبار عن معاناة الخدم وسوء معاملتهم وتكرار حوادث الهروب
والانتحار على الرغم من أن سيد البشرية صلى الله عليه وسلم قد أوصى بالرحمة وحسن معاملة الخدم حيث
قال: «ارحَموا مَن في الأرضِ يَرحَمْكُم مَن في السَّماءِ»، وقالَ علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لا تُنزَعُ الرَّحمة إلا
مِن شَقي»، وقال: «مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ».
ارحم عسى يرحمك يا صاح مولاك=وأحذر ظليمة من وقع تحت أياديك
أعط الأجير الحق من قبل يشنـاك=وحذراك من غيٍّ يغـرك ويغويـك
عبدالعزيز الفدغوش