( 87 ) مدار الأفكار
رحيل الأصـيل
يقول الشاعر العربي:
أيّتُهَا النّفْسُ أجْمِلي جَزَعَا =إنّ الذي تحذرينَ قدْ وقعَا
إنّ الذي جمعَ السّماحة َ والنَّـ =ـجْدَة َ والحَزْمَ والقُوَى جُمَعَا
قضى الله على العباد بالزوال والفناء، وتفرد سبحانه وتعالى بالكمال والبقاء، فخلق الموت وجعله النهاية
الطبيعية لكل المخلوقات، قال تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ» (القصص: 88)، وقال
سبحانه: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ, وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» (الرحمن: 26)، فالموت آية عظيمة من
آيات الله تمسّ كل إنسان منا، والسعيد من يعمل للدار الآخرة، من يعمل للموت الذي خلقه الله ليكون اختبارا
وابتلاء لنا قال تعالى: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» (الملك: 2)،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فقال: يا محمد ! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من
شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن
الناس»، وقال عليه أفضل الصلاة والسلام : «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل
سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
أخذ الرسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل»، وكان ابن
عمر يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظرالصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن
حياتك لموتك»، وفي وصف الموت يقول الشيخ ناصر بن مسفر الزهراني: «إنه زائرٌ لا يستأذن، وضيف
لا يعرف المجاملة، وباطش لا ترده الواسطة. يستوي عنده الكبير الصغير، والأمير والحقير، والغني والفقير،
والملك والمملوك. ليس لزيارته موعد محدد، ولا لقدومه زمن معين، ولا لهجمته وقت معلوم؛ يدلف في
السحر، ويقدم في الظهيرة، ويبهت في الغفلة، ينزل الراكب من على دابته، ويبطش بالملك على كرسيه،
ويختطف الوالد من بين ذويه، والصبي من يد والديه»، قال عز وجل: «كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ
أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ» (آل
عمران: 185)، ويقول كعب بن زهير: (كل ابن أنثى وإن طالت سلامته***يوما على آلة حدباء محمول)
ويقول أحد العلماء الباحثين في حقيقة الموت: «إن الموت ضروري للكائنات الحية ولا يقل أهمية عن
الحياة وأن هذا الموت هو مخلوق داخل كل خلية»، وها نحن وفي خضم تعدد مشاغل الحياة ومسؤولياتها
نودع كل يوم حبيبا، ونشيع عزيزا وقريبا، ولا نملك حيال ذلك إلا التسليم والصبر إيمانا بقضاء الله وقدره
القائل في محكم كتابه الكريم: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» (الأعراف:
34)،وفي الأسبوع الماضي غيّب الموت الرجل الفاضل العم خليفة المفرج الخليفة ليودع دنيانا الفانية إلى دار
القرار والسعادة الباقية بمشيئة الله بعد عمر طويل تجاوز التسعين عاما قضاها في خدمة دينه ووطنه وأبناء
قبيلته ومنطقته، فالفقيد هو أحد أبناء مدينة الجهراء الأوفياء، ومن رجالات الكويت الأفذاذ، عرف عنه سمو
الأخلاق، والطيبة والأمانة والكرم والإنسانية في أسمى معانيها، وتميز بتواضعه الجم، وسماحته وحسن
تعامله، وطيب شمائله وفتح بابه وقلبه لأبناء منطقته وديرته، ومد يد العون والمساعدة للمحتاجين وقاصديه من
سائر الناس، لقد رحل الرجل النبيل الأصيل في يومه الموعود ولكنه ترك بعده الذكرى الحسنة وخلف أبناء
وأحفادا ترسموا خطاه في معالي الأمور وشقوا طريقهم في ميادين الحياة ووصل كثير منهم إلى أرفع
المناصب واضطلعوا بأعمال ووظائف بارزة في البلاد، ومن شهد حشود المشيعين والمعزين يدرك أن الناس
تحف قلوبهم بالإنسان الصالح المحسن إليهم، الحريص على مصلحتهم الدينية والدنيوية، رحم الله الفقيد
وجزاه خير الجزاء فقد عانى يرحمه الله في سنين عمره الأخيرة من بعض المتاعب الصحية وصبر واحتسب
حتى وافاه أجله المحتوم رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
مرحوم يا من صار بيته مضافة= يوم الشدايد والسنيـن الكليفـة
يوم الفخر يحتاج وقفـة كلافـة=فيهـا تبيـن للخليفـة وظيفـة
رمز النقاء مع غيث جوده لطافة= وغير التقاء والطيب نفس خفيفة
مادك به عرق الردا والمخافـة= نبراس عزٍ والمناسـب شريفـة
يارب يامكرم رمـوز الخلافـة= تكرم نزل محتاج عفوك خليفـة