( 78 ) مدار الأفكار
أنعام الأسقام
يقول الشاعر العربي:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى= ذرعا وعند الله منها الفـرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها= فرجت وكان يظنها لا تفـرج
إن من نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان نعمة الصحة والعافية، فالإنسان المعافى قادر على العبادة والعمل،
وتحصيل المعارف و العلوم، ومزاولة أمور حياته المعتادة، قال تعالى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ
اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل: 18)، فالله لم يخلق شيئا إلا وفيه نعمة، وقد خلق سبحانه الأضداد لحكم كثيرة منها
معرفة النعم، فلولا الليل لما عرف قدر النهار، ولولا المرض لما عرف قدر الصحة، فكل نعمة سوى الإيمان
وحسن الخلق قد تكون بلاء في حق بعض الناس، وتكون أضدادها نعما في حقهم، فكما أن المعرفة كمال
ونعمة، فإنها قد تكون في بعض الأحيان بلاء وفقدها نعمة مثل أجل العبد أو جهله بما يضمر له الناس، إذ لو
رفع له الستر لطال غمه وحسده، وكم من نعمة يحرص عليها العبد فيها هلاكه، ولما كانت الآلام والأمراض
أدوية للأرواح والأبدان وكانت كمالا للإنسان، فإن فاطره وبارئه ما أمرضه إلا ليشفيه، وما ابتلاه إلا ليعافيه،
وما أماته إلا ليحييه، وقد حجب سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره وجعلها جسرا موصلا إليها، ولهذا قال
العقلاء: «إن النعيم لا يدرك بالنعيم، وإن الراحة لا تنال بالراحة»، فهذه الآلام و المشاق من أعظم النعم، إذ
هي أسباب النعم، فكم من نعمة لو أعطيها العبد كانت داءه، وكم محروم من نعمة حرمانه شفاؤه، فتقدير الله
تعالى للإنسان كله خير ومن عقيدتنا أن الله جل وعلا لا يخلق شرا محضا لا خير فيه بل هو وإن كان شرا
في صورته فإنه يتضمن كثيرا من الخير لذلك كان من دعائه عليه الصلاة والسلام «والشر ليس إليك» فكم
من محنة كانت في حقيقتها منحة وكم من بلاء تجلى بعد ذلك عن نعماء، قال تعالى: «وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»، (البقرة: 216)، وقال من
لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛
إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له»، وقال صلى الله عليه وسلم:
«إنّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن ّ الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله
السخط»، فالبلاء والأمراض والأسقام إذا كانت في من أحسن ما بينه وبين ربه ورزقه صبرا عليها كانت
علامة خير ومحبة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «العبد دائما بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر، وذنب
منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائما، فإنه لا زال يتقلب في نعم الله
وآلائه، ولا يزال محتاجا إلى التوبة والاستغفار»، ومن فوائد المرض أن فيه تكفيرا للسيئات، ورفعا للدرجات
وكتابة أجر ما كان يعمل من الصالحات، و يقول عبد الرحمن بن يحيى: «إنه تهذيب للنفس، وتصفية لها من
الشر، وإن ما يعقبه من اللذة والمسرة في الآخرة أضعاف ما يحصل به من الألم، وبه يعرف الصبر
ويستخرج به الشكر، ومن خلاله يتجلى انتظار المريض للفرج، وأن الله يخرج به من العبد الكبر والعجب
والفخر، فلو دامت للعبد جميع أحواله لتجاوز وطغى ونسي المبدأ والمنتهى، وكذلك يجد المريض لذة العطف
الذي يحاط به والحب الذي يغمره من أقاربه ومعارفه، إضافة إلى اللذة الكبرى التي يجدها ساعة اللجوء إلى
الله، عندما يدعوه مخلصا مضطرا، كما يدرك العبد من واقع المرض ذله وحاجته وفقره إلى الله»، ويقول
وهب بن منبه: «لا يكون الرجل فقيها كامل الفقه حتى يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة، وذلك أن صاحب
البلاء ينتظر الرخاء وصاحب الرخاء ينتظر البلاء» فالمؤمن في كل أحواله يتدرّج في مراتب العبودية بين
صبر على البلاء وشكر للنعماء .
يا متبع في منهجك شرع الإسلام=خل ّالجزع واليأس والضيق واللوم
ترى عناء الأسقام متبوع بأنعـام= واللي صبر يظفر ولا هو بمحروم
عبد العزيز الفدغوش
الأحد, 10 - مايو – 2009