( 76 ) مدار الأفكار
طلب الأدب
يقول الشاعر العربي:
واسمع حديثهـم إذا هـم حدثـوا=واجعل حديثك إن نطقـت مهذبـا
واسمع حديثهـم إذا هـم حدثـوا=واجعل حديثك إن نطقـت مهذبـا
الأدب وسيلة إلى كل فضيلة، وذريعة إلى كل شريعة، فهو سند الفقراء، وزينة الأغنياء، وفيه
تتفاوت الناس، فهم على ثلاث طبقات، كما جاء كتاب «أنيس الجليس» لمؤلفه الشيخ سالم
العجمي: «أهل الدين، وأهل الدنيا، وأهل الخصوصية»، فأما أهل الدنيا فإن أكثر آدابهم في
الفصاحة والبلاغة وحفظ العلوم وأسماء الملوك وأشعار العرب، ومعرفة الصنائع. وأما أهل الدين
فإن أكثر آدابهم في رياضة النفوس، وتأديب الجوارح وطهارة الأسرار وحفظ الحدود وترك
الشهوات واجتناب الشبهات، وتجريد الطاعات والمسارعة إلى الخيرات. وأما أهل الخصوصية
فإن أكثر آدابهم في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار والوفاء بالعقود بعد العهود، وحفظ الوقت
وقلة الالتفات إلى الخواطر والعوارض، والبوادي والطوارق واستواء السر مع الإعلان، وحسن
الأدب في مواقف الطلب وأوقات الحضور والقربة والدنو والوصلة ومقامات القرب، ومن شرف
الأدب أن يتشعب منه الشرف وإن كان صاحبه دنيا، والعز وإن كان مهينا، والقرب وإن كان صاحبه
قصيا، والغنى وإن كان صاحبه فقيرا، والنبل وإن كان صاحبه حقيرا، والمهابة وإن كان وضيعا،
والسلامة وإن كان سفيها، وجاء في تعريف الأدب أنه: «الأدب هو الكلام البليغ، الصادر عن
عاطفة، المؤثّر في النفوس، ويقوم على العاطفة، الأفكار، الألفاظ والتراكيب، والخيال»، ويطلق
الأدب على ما يستحسن من السيرة والخلق، وعلى المعرفة برواية الشعر والقصص والأخبار
والأنساب، وعلى الكلام الجيد من النظم والنثر، ويدل بمعناه العام على الإنتاج العقلي عامة، مدونا
في كتب. وبمعناه الخاص على الكلام الجيد الذي يحدث لمتلقيه لذة فنية إلى جانب المعنى الخلقي،
ويقول الشاعر:
ما وهب الله لامرئ هبة= أفضل من عقله ومن أدبه
هما حياة الفتي فإن فقدا= فإن فقد الحياة أحسن به
ويقول شيب بن شيبة: «اطلبوا الأدب: فإنه مادة العقل، ودليل على المروءة، وصاحب في الغربة،
ومؤنس في الوحشة، وحلية في المجالس، ويجمع لكم القلوب المختلفة»، وقال عبد الله بن مروان
لبنيه: «عليكم بطلب الأدب: فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالا، وإن استغنيتم عنه كان لكم جمالا»،
قال خالد بن صفوان لابنه: «يا بني الأدب بهاء الملوك، ورياش السوقة، والناس بين هاتين،
فتعلمه تجده حيث تحب»، وقال عبد الله بن المقفع: «إذا أكرمك الناس لمال أو لسلطان فلا يعجبك
ذلك فإن الكرامة تزول بزوالهما، ولكن ليعجبك إذا أكرموك لدين أو أدب»، وقال الأحنف بن قيس:
«رأس الأدب المنطق، ولا خير في قول إلا بفعل، ولا في مال إلا بجود، ولا في صديق إلا بوفاء، ولا
في فقه إلا بورع، ولا في صدق إلا بنية»، ويقول: «يحيى بن محمد العنبري: «علم بلا أدب كنار
بلا حطب، وأدب بلا علم كجسم بلا روح»، وقال عبد الله بن المبارك: «طلبت الأدب ثلاثين سنة،
وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم»، وقال أيضا: «كاد الأدب يكون ثلثي
العلم»، وقد قيل قديما أحسن الحلية الأدب ولا حسب ولا مروءة لمن لا أدب له، ومن تأدب من
غير أهل الحسب ألحقه الأدب بهم، وقيل: «ثلاثة تورث المحبة: الأدب والتواضع والدين، وثلاثة
ليس معهن غربة كف الأذى وحسن الأدب ومجانبة الريب، وثلاثة تكسب المقت الكبر والظلم
والبخل»، وقال حكيم لأبنه: «يا بني عز السلطان يوم لك ويوم عليك، وعز المال وشيكٌ ذهابه،
جدير انقطاعه وانقلابه، وعز الحسب إلى خمول ودثور وذبول، وعز الأدب راتب واصب لا يزول
بزوال المال، ولا يتحول بتحول السلطان»، ويقال: من قعد به حسبه، نهض به أدبه. وقال ابن
المعتز: (لست تعدم من الأديب كرما من طبعه، أو تكرما من أدبه، فالأدب صورة العقل، فحسن
عقلك حيث شئت»، وقيل: «حلية الأدب لا تخفى وحرمته لا تجفى»، وسمع أحد الحكماء رجلا
يقول: «أنا غريب، فقال الغريب من لا أدب له»، ويقول ابن المقفع في كتابه الأدب الصغير:
«وللعقولِ سجياتٌ وغرائزُ، بها تقبلُ الأدبَ، وبالأدبِ تنمىَ العقولُ وتزكوُ. فكما أن الحبةَ المدفونةَ
في الأرضِ لا تقدرُ أن تخلعَ يبسهاَ وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرضِ بزهرتها وريعها ونضرتها
ونمائها إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعِها فيُذهِبَ عنها أذى الَيَبسِ والموتِ ويحُدثَ
لها بإذن الله القوةَ والحياةَ، فكذلكَ سليقةُ العقلِ مكنونةٌ في مغرِزها من القلب: لا قوة لها ولا حياة
بها ولا منفعة عندها حتى يَعتَمِلَها الأدبُ الذي هو ثمارُها وحياتُها ولقاحُها»، فالأدب يحرز الحظ
ويؤنس الوحشة وينفي الفاقة ويعرّف النكرة ويثمر المكسبة ويكمد العدو، ويكسب الصديق.
ترى الأدب للناس حليـة ونبـراس= وبه ترتفع بين الورى جملة الرؤوس
عز الذي به يتصف بيـن الأجنـاس= ومجده يدوم وبين الأجيال مغـروس
عبد العزيز الفدغوش