(74 ) مدار الأفكار
شيمة.. و .. جريمة
يقول الشاعر العربي:
لا بدّ للمرء من ضِيـقٍ ومن سَعَةٍ = ومـن سرورٍ يُوافـِيهِ ومن حَزَنِ
واللهُ يطـلبُ منه شُـكرَ نعمتِـهِ = ما دام فيها ويبغي الصبرَ في المِحَنِ
عرف العرب حتى في زمن الجاهلية بصفات حميدة، وأخلاقٍ فاضلة مثل الشهامة والمروءة
والكرم، والإقدام والشجاعة والإباء، وعزة النفس وحفظ العهد والوفاء، والفصاحة ومعرفة
الأنساب والأحياء، وحسن الجوار وحماية الدخلاء والضعفاء وغيرها، ولذلك قال النبي صلى الله
عليه وسلم: (إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق)، ومن القصص التي تجلت فيها كثير من المعاني
السامية وضرب فيها المثل بالشهامة والصبر وحسن الجوار قصة (المهادي وجاره السبيعي )
والتي جرت أحداثها في جزيرة العرب قبل أربعة قرون تقريبا وجاء ذكرها في كثير من القصائد
الشعبية والمؤلفات الأدبية التي تعنى بالشيم والقيم ومنها كتاب (من شيم العرب) للمؤلف فهد
المارك وكتاب (من آدابنا الشعبية في الجزيرة العربية) للشاعر منديل بن محمد آل فهيد ويجمع
الرواة على أن مهمل أو محمد المهادي قد حل ضيفا عند مفرج السبيعي وأعجب بإحدى فتيات
الحي والتي كانت على مستوى من الجمال، وطلب من مضيفه أن يكون وسيطا له في الزواج
منها، ومن المصادفات أنها كانت ابنة عم مفرج وخطيبته إلا أنه تنازل عنها إكراما لضيفه وتوسط
لدى عمه (والد الفتاة) وزكى المهادي وأشاد بسؤدده ورغب في توثيق الصلة به وبجماعته عن
طريق المصاهرة فلما تحقق للمهادي مراده ودخل على الفتاة التي أصبحت زوجته وجدها تجهش
بالبكاء رغبة في خطيبها، وابن عمها مفرج الذي لم يبق بينها وبينه إلا العقد، وكراهة للغربة عن
أهلها وعشيرتها، فلما علم المهادي بالأمر أنفت نفسه وطلقهاولم يقربها، وشكر لمفرج حسن
صنيعه ولامه على إخفائه الخبر وعادت إلى ابن عمها الذي زوجها وأنجبت منه، وفي ظروف
الحياة القاسية قصد مفرج صديقه المهادي في بلاد الجبلين فأكرم وفادته، وكان للمهادي بيتان
وليس له إلا ولد ذكر وبنات، وفي أحد البيتين ابنه وأمه وفي البيت الثاني البنات وأمهن ولما وفد
مفرج أمر المهادي أم الولد أن تنتقل هي وولدها إلى البيت الآخر ليكون البيت للضيف وأهله،
فتركت زوجة المهادي بيتها وطلبت من زوجة مفرج أن تبلغ ابنها الذي يلعب مع فتيان الحي حين
عودته مساء أمر انتقالها لأن من عادته أن يأوي إلى بيت والدته وينام في طرف فراشها ولا
يوقظها، إلا أن زوجة مفرج غلب عليها النوم وذلك لطول السفر وشدة التعب فدخل ابن المهادي
البيت وأوى إلى فراشه معتقدا أن من ينام إلى جانبها هي والدته، وعندما عاد مفرج بعد سمره
مع المهادي وجد زوجته نائمة وبجانبها فتى يناهز العشرين فلم يملك نفسه من شدة الغضب
وقتله، فانتبهت المرأة قبل أن يلحقها به فبادرت بتوضيح أمر الفتى وأنه ابن المهادي فما أكملت
حديثها حتى أغمي عليه وبعد إفاقته عاد إلى المهادي متغير اللون متلعثم اللسان ينشد شعراً منه:
سريت منك بأول الليل مسـرور= وعودت مجرم ميس ٍ من حياتي
وعند وقوع المصائب تختلف مواقف الرجال منها كما يقول الشاعر :
إذا الرزايا أقبلت ولم تقف= هناك أخلاق الرجال تختلف
وعندما علم المهادي بمقتل ابنه أبدى صبرا وجلادة ومتانة أعصاب وكتم الأمر وأخذ جثة
الفتى هو ومفرج خفية وألقياها في ملعب فتيان الحي بعيدا عن البيوت، وفي الصباح أخبر
جماعته أن ابنه مقتول ولا يعلم قاتله فعظم المصاب على قومه وجندوا أنفسهم لما يريده،
فطلب منهم الدية المتعارف عليها في حال عدم معرفة القاتل والتي تعرف عند القبائل
بـ (دية الغشيا)، حيث تؤخذ لولي الدم ناقة من كل ذود فجمع له ما يقرب من ثلاثمئة ناقة،
فأعطاها ضيفه مفرج وطلب منه كتمان الأمر خوفا عليه من انتقام قومه وألا يحرج مما
جرى لأنه قضاء وقدر، وتحلى المهادي بالصبر والتحمل في إخفاء تبعات القضية وتناساها،
فأقام مفرج عنده عدة سنين ثم اشتد ولع أحد أبنائه بإحدى بنات المهادي فصار
يتعرض لها حتى شكت الأمر إلى والدها وأخبرته أنها لا تستطيع البعد عن الحي خوفا على
نفسها منه فعظمت المصيبة على والدها وكانت أشد من مصيبة قتل ولده، فكان المهادي
أذا قدم الفنجال لمفرج قال له (شد) بدل خذ وإذا لعب معه (البية) وهي لعبة يتسلى بها العرب
قديما وتشبه الدامة، قال له ارحل وإلا رحلنا ! ففطن مفرج لهذه التورية فطلب الأذن بالرحيل
فأذن له المهادي ولم يبد ممانعة، وعندما رحل مفرج وابتعد عن مضارب حي المهادي عاد
متستراً فوجد المهادي ينشد في آخر الليل قصيدة فهم منها أنه وقع منهم إيذاء له أشد من
قتل ولده فاختبر أولاده على سبيل الحيلة حتى اكتشف أن ابنه الصغير كان يتحرش بابنة
المهادي ويحاول اغتصابها فاستل سيفه وقطع رأسه وأرسله للمهادي في كيس، مجسداً روح
الصداقة، و أسمى معاني التضحية والتفاني، ولكن لو تأخرت أحداث هذه القصة إلى
الوقت الحالي هل ستظل كما ينظر لها على أنها مضرب للمثل في الشيم والقيم وأن بطليها (مفرج
والمهادي) من رموز الصبر والوفاء، والصداقة والنقاء، أم أنها ستعد من جرائم العصر البشعة
ويجب محاكمة مفرج لارتكابه جريمتي قتل (الأولى عمداً) والثانية (عمداً مع سبق الإصرار
والترصد) وكذلك المهادي الذي تستر على القاتل وشاركه في إخفاء معالم الجريمة.
لازال ذكر مفـرج ٍ والمهـادي= مضرب مثل بالطيب عيا يبيـدي
مجد ٍ رسخ مابين حضر وبوادي=وكل ٍ بذكره بالمواقف يشيـدي
عبد العزيز الفدغوش