( 64 ) مدار الأفكار
جهـــاد العــقــاد
يقول الشاعر العربي :
يا من تعفَّفَ عن ملذات الدُّنا=حبّا بشيءٍ لا يفـي بزوالـه
عبـاسٌ العقـاد لبَّـى ربَّـه=محمودُ في كل الورى ورجاله
في مدينة أسوان بصعيد مصر وبتاريخ 28 يوليو 1889م ولد عباس
محمود العقاد، وكان أبوه يعمل موظفا بسيطا في إدارة المحفوظات، ولكنه استطاع مع ذلك أن
يدبِّر شؤون أسرته لما عُرف به من التدبير والنظام، و نشأ الطفل عباس وعقله أكبر من سنه،
فعندما لمس حنان أبويه وعطفهما عليه قدّر لهما هذا الشعور وظل طوال عمره يكنّ لهما أعمق
الحبّ، وبادر أبوه - وعباس بعد طفل صغير- فتعهده حتى تعلم مبادئ القراءة والكتابة فراح
يتصفح ما يقع تحت يديه من الصحف والمجلات ويستفيد منها، ثم لحق بإحدى المدارس الابتدائية
وتعلّم فيها اللغة العربية والحساب ومشاهد الطبيعة وأجاد الإملاء، وحصل على شهادتها سنة
1903، وبعد أن أتم تعليمه الابتدائي عمل في وظيفة كتابية لم يلبث أن تركها، وفي سنة
1905 عمل بالقسم المالي بمدينة قنا، وفي سنة 1906 عمل بمصلحة البرق، ثم ترك عمله
بها واشترك سنة 1907 مع المؤرخ محمد فريد وجديفي تحرير «مجلة البيان»، ثم في مجلة
«عكاظ» في الفترة بين سنة 1912 حتى سنة 1914، وفي سنة 1916 اشترك مع صديقه
إبراهيم عبد القادر المازني بالتدريس في المدرسة الإعدادية الثانوية بميدان الظاهر. وظهرت
الطبعة الأولى من ديوانه سنة 1916، ونشرت أشعاره في شتى الصحف والمجلات. وتوالى
صدور دواوين شعره: ( وحي الأربعين- هدية الكروان- عابر سبيل (، وقد اتخذ فيها من البيئة
المصرية ومشاهد الحياة اليومية مصادر إلهام. وخاض هو والمازني معارك شديدة ضد أنصار
القديم في كتابهما «الديوان» هاجما فيه شوقي هجوما شديدا، وفى إنتاجه النثري كتب: (
الفصول- مطالعات في الكتب والحياة- مراجعات في الأدب والفنون)، ثم كتب سلسلة سير
لأعلام الإسلام: (عبقرية محمد- عبقرية الصديق- عبقرية عمر- سيرة سعد زغلول )، كما اتجه
إلى الفلسفة والدين فكتب: (الله- الفلسفة القرآنية- إبليس ) و تجاوزت مؤلفاته الإسلامية أربعين
كتابا، وقد اخْتير العقاد عضوا في مجمع اللغة العربية بمصر سنة 1940، وحصل على جائزة
الدولة التقديرية في الآداب سنة 1959 وتُرجمت بعض كتبه إلى اللغات الأخرى، وقد تبوأ العقاد
مكانة عالية في النهضة الأدبية الحديثة ندر من نافسه فيها، فهو- كما يقول الأديب أحمد تمام –
يقف بين أعلامها،وكلهم هامات سامقة، علما شامخا وقمة باذخة، يبدو لمن يقترب منه كالبحر
العظيم من أي الجهات أتيته راعك اتساعه، وعمقه، أو كقمة الهرم الراسخ لا ترقى إليه إلا من
قاعدته الواسعة، واجتمع له ما لم يجتمع لغيره من المواهب والملَكَات، فهو كاتب كبير، وشاعر
لامع، ولغوي وناقد بصير، ومؤرخ حصيف، وسياسي حاذق، وصحفي نابه، ولم ينل منزلته
الرفيعة بجاه أو سلطان، أو بدرجات، وشهادات، بل نالها بمواهبه المتعددة، وهمته العالية، ودأبه
المتصل، عاش من قلمه وكتبه، وترفع عن الوظائف والمناصب لا كرها فيها، بل صونا لحريته
واعتزازاً بها، وخوفا من أن تنازعه الوظائف عشقه للمعرفة، وحياة العقاد سلسلة طويلة من
الكفاح المتصل والعمل الدءوب، صارع الحياة والأحداث وتسامى على الصعاب، وعرف حياة
السجن وشظف العيش، واضطهاد الحكام، لكن ذلك كله لم يُوهِنْ عزمه أو يصرفه عما نذر نفسه
له، خلص للأدب والفكر مخلصا له، وترهب في محراب العلم؛ فأعطاه ما يستحق من مكانة
وتقدير، و في الثاني عشر من آذار سنة 1964م توفي العقاد -رحمه الله- بعد أن ترك تراثا
كبيرا، فمن مؤلفاته: ( ديوان العقاد- العبقريات- الشيوعية والإنسانية- أبو نواس- جحا الضاحك
المضحك )، ونشر له بعد وفاته: حياة قلم- أنا (ترجمة ذاتية له)- رجال عرفتهم .
ما غاب نبراس المعرفـة والآداب=حيث ٍ بعلمه حاضر الذكر ومصيب
بين الورى لا زال يذكر ولا غاب= وعم ّ بسنا الأفكار شرق وتغاريب
عبد العزيز الفدغوش