( 62 ) مدار الأفكار
أجر الصبر
يقول الشاعر العربي:
وإذا عرتك بلية فاصبـر لهـا=صبر الكريم فإنه بـك أعلـم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنمـا=تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
لقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن تكون حياة البشر على ظهر هذه
الأرض مزيجا من الهناء والشقاء، والفرح والترح، واللذائذ والآلام، فيستحيل أن ترى فيها لذة غير
مشوبة بألم، أو صحة لا يكدرها سقم، أو سرور لا ينغصه حزن، أو راحة لا يخالطها تعب، أو اجتماع لا
يعقبه فراق، كل هذا ينافي طبيعة الحياة الدنيا، ودور الإنسان فيها، والذي بيَّنه ربنا جل وعلا بقوله:
{إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا} (الإنسان: 2)، ولهذا فإن خير ما
تواجه به تقلبات الحياة ومصائب الدنيا هو الصبر على الشدائد والمصائب، الصبر الذي يمتنع معه العبد
عن فعل ما لا يحسن وما لا يليق، وحقيقته حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح
عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها، وهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وقد ذُكر في نحو
تسعين موضعا من القرآن الكريم وما ذاك إلا لضرورته وحاجة العبد إليه، كما قال الإمام أحمد بن
حنبل، فالصبر من الأخلاق الفاضلة وقائد للنفوس على طاعة الله وصارف لها عن المعصية، وهو قوة
من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها، وقد سئل الجنيد عن الصبر فقال: «هو تجرع
المرارة من غير تعبس»، وقال ذو النون: «هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص
البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة»، والصبر للنفس بمنزلة الخطام والزمام، فهو
الذي يقودها في سيرها إلى الجنة أو النار، وحُفظ عن بعض السلف قوله: «اقدعوا هذه النفوس فإنها
طلعة إلى كل سوء»، أي كفوها عما تتطلع إليه من الشهوات، فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاما
وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن المعاصي، فإن الصبر عن محارم الله
أيسر من الصبر على عذابه، ومما يحمد في الصبر أن يجعل العبد قوة إقدامه مصروفة إلى ما ينفعه،
وقوة إحجامه إمساكا عما يضره، وقد قيل: «الصبر ثبات باعث العقل والدين في مقابلة باعث الهوى
والشهوة»، وللصبر فضائل كثيرة منها أن الله سبحانه وتعالى يضاعف أجر الصابرين على غيرهم
ويوفيهم أجرهم بغير حساب، فكل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر، قال تعالى: «إنما يوفى الصابرون
أجرهم بغير حساب» (الزمر: 10)، وأن الصابرين في معية الله فهو معهم بهدايته ونصره وفتحه
قال تعالى: «إن الله مع الصابرين»، (البقرة: 153)، وجمع الله للصابرين أمورا ثلاثة لم يجمعها
لغيرهم وهي: «الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم»، قال تعالى: «وبشر
الصابرين*الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم
ورحمة وأولئك هم المهتدون» (البقرة: 155- 157)، وقال بعض السلف وقد عزي في مصيبة
وقعت به: («مالي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا
وما عليها»، كما أن الله علق الفلاح في الدنيا والآخرة بالصبر، فقال: «يا أيها الذين آمنوا اصبروا
وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)، (آل عمران: 200)، ويقول أهل العلم الصبر ثلاثة
أنواع: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها،
وصبر على الأقضية والأقدار حتى لا يتسخطها، والصبر النافع الذي يترتب عليه الثواب والأجر ويؤتي
ثماره وآثاره في نفس العبد - كما جاء مصرحا به في الأحاديث الشريفة - هو ما كان في أول وقوع
البلاء، بأن يفوض المؤمن أمره ويسلمه إلى أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، ويستسلم لأمره
وقضائه، فإن للمصيبة روعة تهز القلب، وتذهب باللُّب، فإذا صبر العبد عند الصدمة الأولى انكسرت
حِدَتها، وضعفت قوتها، وهان عليه بعد ذلك استدامة الصبر واستمراره، وعن أبي هريرة رضي الله عنه
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا
قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة»، وقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة
تبكي عند قبر، فقال لها: «اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه،
فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده
بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى»، وقال عمر بن الخطاب – رضي
الله عنه : «وجدنا خير عيشنا بالصبر»، وقال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه : «الصبر مطية
لا تكبو»، وسئل الفضيل بن عياض عن الصبر فقال: «الرضا بقضاء الله، قيل وكيف ذلك؟ قال:
الراضي لا يتمنى فوق منزلته»، ويقول عبدالله بن المقفع: «الصبر صبران، فاللئام أصبر أجساما،
والكرام أصبر نفوسا»، وقال بعض الحكماء: «العاقل يصنع في أول يوم من أيام المصيبة ما يفعله
الجاهل بعد أيام، ولا ينافي الصبر البكاء والحزن من غير صوت ولا كلام محرم، وإذا كانت مقادير الله
نافذة على العبد رضي أم سخط، صبر أم جزع، فإن العاقل ينبغي أن يصبر ويحتسب ويرضى بقضاء الله
حتى لا يحرم الأجر والمثوبة، فالصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده، وهو من
أعظم أسباب الفوز بجنة الله ورضوانه.
الصبر رأس المال في كل الأحـوال=أيضا وهو مفتاح الفرج مثل ما قيل
أصبر ترى بالصبر تحقيق الآمال= و(اليسر بعد العسر) في نص تنزيل