( 58 ) مدار الأفكار
حـــب الوطـــــن
يقول الشاعر العربي:
وللأوطان في دم كل ّ حر= ٍيد سلفت ودين مستحـق
وللـحرية الـــحمراء باب= بكـل يـد مضـرجة يـدق
إن الوطن هو أغلى ما يعتز به الإنسان، لأنه مهد صباه، ومدرج خطاه،
ومرتع طفولته ومأوى كهولته، ومنبع ذكرياته ونبراس حياته، وموطن آبائه وأجداده، وملاذ أبنائه
وأحفاده، وأوطان الناس - كما يقال - هي قطع من أكبادهم، وحب الوطن والاعتزاز والفخر بالانتماء
إليه يملك على الإنسان كل مشاعره وأحاسيسه، لأن وطنه هو دنياه ورمز سعادته وهناه، وعزته ومبلغ مناه،
وكما يقول ابن الرومي:
حبب أوطان الرجـال إليهـم= مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهـم ذكرتهـم=عهود الصبا فيها فحنّوا لذالكا
ويقول أحد شعراء المهجر عندما ازداد حنينه لوطنه:
أخت العروبة هيئي كفني= أنا عائد لأموت في وطني
أأجود من خلف البحار له=بالروح ثم أضن بالبـدن
ويقول شاعر آخر :
بلادي وإن جارت علي ّ عزيزة=وأهلي وإن ضنوا علي ّ كـرام
ويقول الشاعر الشعبي :
حب الوطن بقلوبنا ماله حـدود= ومن حبها يرخص لها كل غالي
ومهما عطينا للوطن يطلب الزود=وأفديه بعيالي وحالـي ومالـي
والشعور بالحب نحو الوطن والشوق إليه ليس وقفًا على أرباب
العواطف والشعراء بل إن جبابرة التاريخ أحسوا بذلك ولقد قال نابليون بونابرت في منفاه وهو على
سرير الموت : «خذوا قلبي ليدفن في فرنسا»، وكما يقول الدكتور صالح بن علي - مدير مركز
البحوث بكلية المعلين في أبها -: «لا شك أن حب الوطن من الأمور الفطرية التي جُبل الإنسان
عليها، فليس غريباً أبداً أن يُحب الإنسان وطنه الذي نشأ على أرضه، وشبَّ على ثراه، وترعرع بين
جنباته . كما أنه ليس غريباً أن يشعر الإنسان بالحنين الصادق لوطنه عندما يُغادره إلى مكانٍ آخر،
فما ذلك إلا دليلٌ على قوة الارتباط وصدق الانتماء،وحتى يتحقق حب الوطن عند الإنسان لا بُد من تحقق
صدق الانتماء إلى الدين أولاً، ثم الوطن ثانياً، إذ إن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تحُث الإنسان على
حب الوطن ؛ ولعل خير دليلٍ على ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف يُخاطب مكة
المكرمة مودعاً لها وهي وطنه الذي أُخرج منه، فقد روي عن عبد الله بن عباسٍ (رضي الله عنهما)
أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: «ما أطيبكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي
أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ»). ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُعلم البشرية يُحب
وطنه لما قال هذا القول الذي لو أدرك كلُ إنسانٍ مسلمٍ معناه لرأينا حب الوطن يتجلى في أجمل صوره
وأصدق معانيه، ولأصبح الوطن لفظاً تحبه القلوب، وتهواه الأفئدة، وتتحرك لذكره المشاعر .
وإذا كان الإنسان يتأثر بالبيئة التي ولد فيها، ونشأ على ترابها، وعاش من خيراتها ؛ فإن لهذه البيئة
عليه ــ بمن فيها من الكائنات، وما فيها من المكونات ــ حقوقاً وواجباتٍ كثيرةً تتمثل في حقوق الأُخوة،
وحقوق الجوار، وحقوق القرابة، وغيرها من الحقوق الأُخرى التي على الإنسان في أي زمانٍ ومكان
أن يُراعيها وأن يؤديها على الوجه المطلوب وفاءً وحباً منه لوطنه. وإذا كانت حكمة الله تعالى قد
قضت أن يُستخلف الإنسان في هذه الأرض ليعمرها على هدى وبصيرة، وأن يستمتع بما فيها من
الطيبات والزينة، لا سيما أنها مُسخرةٌ له بكل ما فيها من خيراتٍ ومعطيات ؛ فإن حُب الإنسان لوطنه،
وحرصه على المحافظة عليه واغتنام خيراته؛ إنما هو تحقيقٌ لمعنى الاستخلاف الذي قال الحق
سبحانه وتعالى فيه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61)
ومن كلمات سمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح رحمه الله وطيب ثراه: (المواطنة الصالحة
هي الانتماء إلى الوطن، والولاء له، والاعتزاز به والإسهام في بنائه وتقدمه) .