أحزانها أكبر من جسدها النحيل، و همومها أثقل من أن يحملها قلبها الصغير...
ذاقت الويلات التي يعجز بعض الكبار عن تحملها.
تلوب في أروقة المدرسة تبحث عن عيون ترحمها لكن بصرها يرتد خاسئاً.
مات أبوها قبل عام، و منذ وفاته و المرض ينشب أظفاره في جسد أمها المنهك، حتى أحاله إلى لون أصفر باهت
... مع من تتحدث؟
ربما إلى جدران مدرستها التي كانت قبل سنة أجمل مبنى رأته...
ففي اليوم الأول من ذهابها إلى المدرسة رجعت إلى و الديها وهي تقول: ذهبت إلى ناس عندهم بنات جميعهن في نفس سني.
ضحكت أمها كثيراً كما ضحك والدها...
لكن كان منذ سنة عندما كان والدها حياً، أما الآن فقد غيبه الموت، وغيب معه ضياء البراءة الذي كان يشع من عينيها،و أطفأ بريقاً كان يلمع في وجه و الدتها.
********
رجعت من المدرسة بعدما أعلن الجرس انتهاء الحصة الخامسة و هي تحمل حقيبتها الصغيرة، و تحمل معها هموم الدنيا على ظهرها، واتجهت و هي تجر خطاها نحو منزلهم الواقع في نهاية الشارع.
آه... كم هو محزن أن تحمل طفلة لم تتجاوز الثامنة هموم من تجاوز الثمانين!
طرقت الباب لكنه لم يفتح، لم تستغرب لأن هذه حالة أمها ...
لا تستطيع الإسراع بالمشي من شدة المرض الذي أصابها بعد وفاة والدها...
دقت الجرس مرة ثانية، و ثالثة و لكن لا مجيب.
أحست بالخوف، ثم صاحت:
أمي..أمي لقد أتيت...أمي ...
لكن أمها لم ترد،عند ذلك ظنت أن أمها غاضبة منها لأنها وجدت نصف فطيرة الصباح التي لم تأكلها و خبأتها تحت الأريكة،فقالت و هي تبكي:
أمي أرجوك، افتحي الباب لن أعود لهذه الفعلة مرة أخرى...أرجوك أمي...
لكن أمها لم ترد... ثم بدأت تبكي بكاء مراً... لم يأبه بها أحد، و لم تلفت أنظار الفضوليين، فالكل مشغول عنها.
********
هبط المساء رويداً...
و بدأت أطرافها ترتعش، ثم صرخت صرخة الآيس تنادي أمها: أعاهدك لن أكررها مرة أخرى، سأموت من البرد....
لم يرتد إلى سمعها سوى تغريد العصافير عائدة إلى أعشاشها....
ألقت بنظرها إلى الشمس كأنها تتوسل إليها أن تشفع لها عند أمها كي تفتح الباب.حتى الشمس لم تأبه بها فسرعان ما دست رأسها خلف بنايات المدينة.
أقبل الليل بعباءته السوداء متقلداً الهلال الذي غدا كأنه خنجر تحيط به مجوهرات زادت الليل بهاء.
كان همها أن تدفئ جسمها النحيل، و تشبع معدتها الثائرة... تمنت لو أنها أكلت كل الفطيرة!....
********
ل م تستطيع أن تتحمل شدة البرد و الجوع فتوجهت بخطوات خائفة نحو منزل جيرانهم.
إنها لا تعرف منهم سوى و جه والدهم العبوس دائماً...دقت الجرس و أناملها الصغيرة ترتجف، فأتاها رد من خلف الباب:من هناك؟ أنا منى ياخالتي... منى؟... بنت جيرانكم... فتح الباب ببطء و أطل من خلفه وجه سيدة جاوزت الثلاثين: من أنت؟ وما شأنك؟! أنا منى يا خالتي... أرجوك اطلبي من أمي أن تسامحني،أرجوك ياخالتي...
- ماذا؟ و ما شأني أنا؟صحيح ( ناس ماعندهم ذوق ) و أغلقت الباب بقوة...
كومت جسمها النحيل أمام الباب وانخرطت في بكاء مرير شد انتباه ابن جيرانهم العائد من سهرته، وراعه أن تكون هناك طفلة صغيرة في الشارع في مثل هذا الوقت،اقترب منها و سألها: من أنت يا صغيرتي؟
-أنا منى
-منى من؟
- منى خالد.
-أين تسكنين يا منى؟
- في هذا البيت.
أخذته الحيرة ربما لقرب منزلهم و مع ذلك لا يعرفها، أو ربما لخروجها من المنزل في هذا الوقت...سألها:
- لماذا خرجت و الجو بارد،و الوقت متأخر؟
- أنا لم أدخل حتى أخرج.
- كيف؟
- منذ أن أتيت من المدرسة لم أدخل المنزل...أمي غاضبة عليََّ لأني لم أتناول فطوري كاملاً هذا الصباح...
استغرب القصة و لم يتوقع أن تكون هناك أم بمثل هذه القسوة، ثم سألها:
هل قالت لك أمك أنها لن تدخلك لأنك لم تأكلي إفطارك؟
أجابت: لا، ولكنها لم ترد عليَّ منذ أتيت من المدرسة.
بدأ يساوره القلق فسألها: أين والدك؟...
عند ذلك لمح دمعة برقت في عينيها، ثم قالت و العبرات تخنق صوتها: ليس لي أب...أبي مات....
أجابها:تعالي لأطلب من أمك أن تسامحك، ولتكن هذه آخر مرة تتركين فيها إفطارك.
ردت عليه: لقد حاولت قبلك، لكن أمي لم ترد عليَّ...
اتجها إلى باب منزلها،ورن الجرس مرة و أخرى،ثم قالت:إنها هكذا لا تستطيع الإجابة على الطارق بسرعة فهي مريضة.
التفت إليها و سألها: هل مرضها شديد؟
نعم فهي لا تستطيع أن تنهض من السرير إلا بصعوبة.
عند ذلك عرف السر فقال لمنى: هيا معي إلى منزلنا لتأخذي عشائك، ثم اتصل بأمك هاتفياً.
أذعنت الصغيرة لابن جيرانهم (وليد) الذي لم يتجاوز العشرين...فتح باب المنزل بهدوء حيث كان الكل نائماً فطلب منها الدخول بهدوء، ثم أمرها بالجلوس بالصالة وأشعل المدفأة،و توجه إلى المطبخ و أحضر لها قطعة خبز قد حشاها بالجبن ومعها كأس من العصير،و اتجه نحو الهاتف
...وطلب الإسعاف.
بعد أن أغلق الخط. توجهت الصغيرة إليه و سألته:
هل ستسامحني أمي؟....
نظر في عينيها الحزينتين ثم قال:إن شاء الله...
شعر أن الوقت ثقيل،فخرج إلى الشارع ينتظر قدوم سيارة الإسعاف حتى و صلت.
*******
اقتحم وليد و معه طاقم الإسعاف المنزل، ثم توجهوا إلى المريضة فوجدوها ساكنة سكون الموت...
لقد ماتت أم منى...
لتلحق بزوجها وتركا خلفهما طفلة بريئة...
**********
خرج وليد من منزل جارته و هو يجر خطواته جراً تهاجمه خواطر عن تلك الصغيرة التي لم تتجاوز الثامنة و قد غدت بلا أم و لا أب...
استمرت الخواطر تتورد عليه،ولم ينتبه إلا و منى تسأله عند الباب:
هل رضيت أمي؟
...أرجوك...
أخبرني...
نظر إليها مشفقاً على تلك المقلتين الناعستين أن يهطل منهما الدمع مدراراً، و تعجب أن يقاسي ذلك القلب الصغير الويلات و قال:
منى...أمك مريضة...ويجب أنتنامي الليلة في منزلنا...
فردت باكية: ولكني أريد أن أنام عند أمي...
أختي في مثل سنك و ستفرحين كثيراً عندما تلعبين معها فاجلسي الليلة هنا...
تسلل وليد إلى غرفة و الديه بهدوء و أيقظ أباه الذي تفحص ساعته بعينين أثقلهما النوم، ثم خاطب ابنه معاتباً: الساعة الثالثة و النصف، ألا تستطيع تأجيل طلبك إلى الصباح؟...
قام متثاقلاً من فراشه حتى خرج من الحجرة،ثم سأل وليد:ماذا تريد؟ أشار وليد إلى منى و قد راحت في نوم عميق قرب المدفأة...
سأله أبوه مستغرباً من هذه؟ أجاب هذا ما أيقظتك لأجله...ثم أخبره القصة.
**********
انفجر أبو وليد غاضباً: منذ متى نعول أبناء غيرنا، أما تكفوني أنتم؟..فضولك الزائد قادك إلى هذا...
اسمع...هذه البنت لن تجلس في بيتي إلا إلى الصباح...أتفهم؟
......دور الرعاية تملأ الدولة...عندهم تجد من يستطيع كفالتها.
حاول وليد و لكن بلا طائل.
**********
لم ينم وليد تلك الليلة، و ظل يفكر في مصير تلك الطفلة و حظها العاثر. تمنى ألا تشرق الشمس أبداً، حتى لا تخرج من منزلهم إلى المجهول، لكن لم يشعر إلا و المؤذن يؤذن لصلاة الصبح...توجه إلى المسجد ودعا الله أن يسخر لمنى من يكفلها.
********
رجع وليد فاستقبلته من عند الباب و قالت الآن أرجعني إلى أمي.أجابها: مارأيك أن تذهبي معي قليلاً ثم نعود إلى أمك...أركبها معه في سيارته و ذهب بها إلى الحديقة...إلى السوق،ثم إلى مدينة الألعاب...اشترى لها كل ما طلبته. أخيراً توجه إلى دار رعاية الأيتام و أنزلها معه و قال:ياصغيرتي ستبقين هنا...قاطعته: وأمي لماذا لا تأخذني إليها؟ أدار ظهره وهو يخفي دمعتين حائرتين و قال في نفسه: مهما حرمك القدر فالله أعلم و أرحم بك...
و مضت الأيام و لا تزال منى على أملها....
أمل أن ترجع أمها يوما ما...