( 38 ) مدار الأفكار
إحساء النقاء
يقول الشاعر العربي :
إنما الإحساء بلاد جمعت كل الصفات=مجدها كان عريقا من قديم الحقبات
ازدهت علما وفنا دانيا بالثمرات=فهي روض للمعالي حافل بالمـكـرمات
يطلق اسم الإحساء على الواحة الواقعة جنوبي المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وتمتد في ما
بين ساحل الخليج العربي وصحراء الدهناء وصحراء الصمان، وتشكل الحدود الشرقية للمملكة مع
دولة قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان، وقد عرفت منذ أقدم الأزمان بأهميتها خاصة في
شبه الجزيرة العربية بحكم موقعها الذي تلتقي فيه، وتمر منه، الطرق التجارية التي تصل شرقي الجزيرة
العربية ببلاد فارس والهند والشرق الأقصي، كما كان ميناؤها "العقير" المنفذ البحري للمنطقة الوسطى من
المملكة، وتنطق الإحساء باللغة الرسمية، أما في الوسط المحلي والدارج فيطلق عليها الحسا، واسم
الإحساء مدلول طبيعي، حيث يرى بعض المؤرخين انه جمع "حسي"، وهي الأرض الصخرية المغطاة بطبقة
رملية تختزن مياه الأمطار، بحيث يمكن الحصول عليها نقية عذبة بحفر عمق بسيط جدا، ولكثرة الأحسية
والعيون والينابيع في هذا الموقع عرفت المنطقة بالإحساء، وتذكر كثير من المراجع إن تاريخ الإحساء يعود
إلى أكثر من 4000 سنة قبل الإسلام، وقد تعاقب على السكن فيها أقوام من "الساميين، الفينيقيين،
الكنعانيين، الجرهائيين، طسم، جديس وبنو عبدالقيس" وغيرهم، وعند نزول القرآن على رسول الله صلى
الله عليه وسلم أوفد إلى الإحساء العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه، الذي ابلغ الرسالة إلى حاكم
الإحساء في ذلك الوقت، المنذر بن ساوي، فدخل في دين الله هو وأهالي الإحساء جميعا، ويتميز أهل الإحساء
منذ إشراقة الإسلام وحتى وقتنا الحالي بالسماحة والنقاء، وحب الخير والوفاء، ونبذ مظاهر العنف
والبغضاء، وقد برز منهم أباء أفذاذ وعلماء أجلاء، ولأن السلام مفتاح القلوب وميزة الأنقياء ، تجد أهل
الإحساء هم الأكثر بين أبناء المنطقة بشاشة وإفشاء للسلام عملا بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "
لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ افشوا
السلام بينكم"، وهم خير من يجسد قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ثلاث يُصْفِين لك ود أخيك: إن
تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه"، وكان من مآثر الإحساء بناء
مسجد "جواثا"، الذي يعتبر ثاني مسجد في تاريخ الإسلام أقيمت فيه صلاة الجمعة بعد مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، ومن الإحساء انطلقت الدعوة الإسلامية إلى المناطق المجاورة
فدخل كثير من أهلها في دين الله، وفي عام (927هـ) احتلت البرتغال معظم مناطق الخليج، إلى أن
طردتهم الدولة العثمانية عام 958هـ ثم سادت الإحساء بعد ذلك اضطرابات كثيرة نتيجة لعدم استقرار الحكم
فيها إلى أن انضمت إلى حكم آل سعود الذين عملوا على نصرة دين الله في الإحساء وما جاورها، وحين
قامت الدولة العثمانية بآخر حملاتها العسكرية على شبه الجزيرة العربية، بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي
بقيت فيها دون أن تتمكن من تحقيق الأمن والاستقرار إلى أن ظهر مؤسس المملكة العربية السعودية الملك
عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - يرحمه الله- الذي استطاع في الثامن من مايو 1913 أن يحاصر
الموقع العسكري العثماني في الإحساء والمعروف حاليا باسم "قصر إبراهيم" في حي الكوت القديم، ومن ثم
قام بطرد القوات العثمانية إثر معركة بطولية شبه أسطورية صورها أحد الشعراء بقصيدة معبرة جاء فيها:
ما أهبلك يا باغي من الحكم مثقال=وعبد العزيز مساعدتـه الليالـي
حول على حمر الطرابيش بحبـال=حيث ٍ له قلب من الخـوف خالـي
فانضمت الإحساء منذ ذلك الحين إلى كيان الوطن السعودي الموحد لتنعم بالطمأنينة والأمان،
وتعيش عصر الرخاء والوئام والسلام.
عشنا وشفنا بالحسا طيب الأفعال=ومكارم ٍ تورث لجيل بعد جيـل
ين الورى بانت لهم جم الأنفال=حيث التواضع ميزة ٍ للمشاكيـل