(1)..
« ذات مساء بعيد.. كنت ألعب مع طفلي، أرفعه وانتشي حينما يطير في
الهواء بصرخاته.. وفي غمرة سعادتي معه، دق جرس الباب..
أنزلته جانباً، جمعت ألعابه وحوطته بها، وخرجت لأرى من عند الباب..
لم انتبه إلى خطواته التي كانت تلاحقني فتحت الباب وكان صديقي يطلبني
في أمر مهم، وطلب ان أرافقه لأمره، استأذنته لأبدل ملابسي، وحين
هممت بدخولي وجد طفلي يشرع ذراعيه نحوي احتظنته وحملته معي إلى
الداخل ناديت أمه لتلهيه قليلاً حتى أتمكن من تغيير ملابسي والخروج
لأمر صديقي ضمته على صدرها وصعدت إلى غرفتي بدلت ملابسي
بعجالة ونزلت مع الدرج بهدوء حتى لا ينتبه صغيري ويتشبث بي،
خرجت من الدار مسرعاً لم التفت خلفي ركبت سيارتي ولم انتبه إلى أنني
لم أغلق خلفي الباب جيداً وكان صغيري دون أن أعلم يسرع الخطى خلفي
رجعت بسيارتي إلى الخلف لابتعد عن صندوق النفايات الأصفر، شعرت
بصوت كأنه صوت صندوق من الكرتون يتحطم تحت عجلات سيارتي،
شيء ما جعلني أوقف سيارتي وأنزل منها لأجد جسد طفلي الصغير الغض
مهصوراً.. غارقاً بدمائه وكانت تلك هي آخر سيرة له مع الحياة !!».
(3)..
بعد مدة من الوجع والفقد كتب رسالته :
إلى من ارتشفت من نبع ابتسامته الحياة ..
إلى من أدخلني عالم البياض ودسَّ الفرحة في جيوب حزني..
إلى طفلي الذي مات مهصوراً تحت عجلات تهوري..
تسعة أشهر وأنا انتظر الفرحة..
عشتها يوماً بيوم ولحظة بلحظة..
كنت أرقب حركاتك وشغبك في بطن أمك..
أبسط كفي على بطنها وأنفث عليك بآيات القرآن كي تطمئن روحك..
وطال الانتظار مرت الشهور التسعة كتسع سنين..
وجاء الموعد المرتقب بعد أن كاد صبري ينفد وعزيمتي تضعف..
جئت طفلاً بكامل الصحة والعافية..
بشارة لم تسعها فرحتي..
كنت أتصرف كالمجنون..
أريد أن أصافح الجميع وأقبل كل الأطفال..
كأني التهمت كل الفرحة الموجودة في قلوب البشر وخبأتها داخل صدري..
الدنيا نور كلها نور..
كنت أرى كل الوجوه مبتسمة حتى العابسة منها رأيتها تبتسم لي..
الآن فقط انتفض فرحي النائم في صدري منذ خرجت إلى الحياة..
مدت بك الممرضة إليّ..
ودموع الفرحة التي تسح من عيني بغزارة تغسل جسدك العاري..
قبلتك بحنو..
ومع كل قبلة كانت صرخات السعادة تزدحم داخل روحي..
ضممتك إلى صدري..
ياااه لأول مرة أشعر بطعم الحياة..
ابني قطعة مني.. لا أصدق أني احتويه بين يدي..
ومرت الأيام وبدأت تكبر وتعدو في سجل الأيام..
سنة.. سنتين..
وحلاوته تزداد..
والشهد يتدفق من فمك حين تناديني ( بابا.. )
لن أنسى تلك اللحظة الجميلة أبداً حين وبَّختك أمك فهرعت إلى حضني وقد امتزج صوت بكائك بكلمة ( بابا.. )
ضممتك وبكيت فرحة سماعي لمناداتك واستنجادك بي ..
كنت دائماً أتأملك وأنت تلعب..
تبعثر مكعباتك الملونة..
وسياراتك بأحجامها المختلفة..
تتحدث معها بلغة لا أفهم منها سوى البياض والبراءة..
كنت أحضر لك كل ما تشتهي..
ألم أذق مرارة انتظاره عشر سنوات ؟!
ترددت فيها على الأطباء..
أدوية.. عقاقير.. عمليات جراحية.. وجسدين أضناهما التعب..
تلبسني اليأس..
ورغم ذلك كنت أمزق رداءه وألبس الأمل..
لا شيء مستحيل ورحمة الله واسعة..
الحياة معك كانت لذيذة..
أنام وانتظرك صباحاً اغتسل فيه بابتسامتك..
أذهب للعمل..
وحين أعود أجدك شارعاً ذراعيك لي ويدك تمتدُّ إلى جيبي لتخطف قطع الشوكولاتة التي تحبها..
ثلاث سنوات..
عمر من فرح..
وابتسامة لا تنقطع ولا تفتر..
نسيت الحزن لكن الحزن كان يختبئ لي ولم ينسني بعد..
بُنَي..
لم يبق سوى صورتك المعلَّقة على جدار غرفتي..
صورة جامدة.. وابتسامة خجلى..
مددت يدي من شوقي وتحسست صورتك..
كل ملامحك تتشابه يا بني في ملمسها..
مسحت على كل ملامح الصورة..
على عينيك فافترت دمعة من عيني..
وعلى أنفك فاشتممت رائحتك العالقة هنا وهناك..
على شفاهك.. فنطقت باسمك اليابسة أحرفه على لساني..
جذبت صورتك من الحائط وقبلتها.. حضنتها بصدري..
غسلتها بدمعي فالتصقت بصدري ولم أستطع أن أبعدك عن صدري..
ليس أمامي سوى صورتك لحظة أن غيبك الموت..
سحبت جسدك المهصور تحت عجلات سيارتي..
لن أستطيع وصف شعوري وقطعة اللحم المكسوة بالدم بين يدي..
لحظتها وأنا أرقب وجهك الغارق بالدماء..
سمعت صوتك يصرخ بصمت دهشتي وجنوني..
لم
قتلتني يا أبي ؟!!
ألم تنتظرني سنيناً ؟!
( لماذا لم تغلق الباب خلفك ؟!! )
لم أشعر سوى في برودة أرضية الغرفة..
جالساً على ركبتي..
الدموع تسحُّ من عيني وتبلل ثوبي وبلاط غرفتي..
وصوت قادم من مساحة بعيدة من نفسي..
يهتف:
لقد مات طفلي..
(4)..
بُنَي..
لا أحد هنا..
بيدي دفنتك هناك تحت الثرى..
وقد خلى الدار من كل صوت..
احتواء الأمكنة أصبح ظلاماً..
لا شيء يشبه آخره..
فقط ظلام يعصف بكل شيء..
وصمت يتسلق كل جدران الظلام..
وها أنا أقع في شرك الحزن ولا منقذ لي..
أمك لم تتحمل غيابك..
تركت الدار الذي تصرخ كل أماكنه تناديك..
رحلت إلى دار جدك محملة بكسوة الدمع وأنين الألم..
تركتني وحيداً..
أتجرع مرارة لحظة إهمال لم أقصدها..
وألماً يفوق ألم أمِّ أصابها طلق النار وهي تضع طفلها فتكالبت عليها آلام الولادة وحرارة الموت..
لم أعد أرى سوى دموعي..
ووجه شاحب أرسمه على مرآتي..
صرخاتك وضحكاتك وبكاؤك لا زال يطرق مسمعي..
وأحلامي الممتلئة بك أصبحت صفيراً ساخناً في صدري..
كم اشتقت إليك كثيراً..
أمك كانت تقول لي في يوم غلَّفني فيه الظلام..
لقد ذهبنا إلى مدينة الملاهي ذات مساء..
حينما كان بعد السفر يبعدك عنا..
ورسم ابني على وجهه أسماك الدلفين..
بألوان رائعة.. جذابة..
وحينما عدنا..
نزل من السيارة بسرعة..
وبدأ يدور ويبحث عنك..
سمعناه ينادي بأعلى صوته (.. بابا.. بابا.. )
يريد ان يريك ما رسمه على خده..
كان مجبولاً بالفرح..
لم يجدك.. فغياب سفرك ما زال غائباً..
وحين تملكه اليأس.. رجع إلى حضني..
صوته المبحوح لا يزال يحمل بقايا كلمة ( بابا..)
جلس في حضني لتمسح دمعته ذلك الدلفين الأزرق الذي التصق بخده..
وها هو الدمع يفتر من عيني.. يبحث عن وجهك يا صغيري..
كنت أحلم أن أستمتع معك..
وحين يأتي مسلسل أحرص على متابعته..
أضع يدي بيدك الدفئة كأيدي كل الأطفال..
ونشاهد سوياً ما يعرض..
كنت أحلم وأحلم..
وها هي أحلامي تلتصق على جدار اليأس..
ها هي شاشة التلفاز تعرض ذلك المسلسل..
وكفي خالية من كفك..
باردة حد الصقيع..
أقتات وجعي بيني وبين نفسي..
وتلفظ روحي آهات الألم..
وأنا ممتلئ بالحزن الذي يزدحم فيه وجهك..
أجلس على عتبات الفرح كمتسول..
أشحذ حفنة سعادة أذرها على ألمي علها تخفف عنه فلا أجد سوى ماض يمارس جلدي بسياطه..
بصدري وحشة وجفاف..
ومساحة خالية لا تستوعب من بعدك أي شيء..
وسلاسل وجع تتدلى لتخنق ما تبقى من أيامي..
حتى خطواتي صارت شاردة..
لا أعرف وقع خطوتي..
وأجهل كل طرقي..
أشعر بالأيام تدور بي في دائرة حزن مغلقة..
طول قطرها بحجم طول ألمي..
وبمركزها تتربع صورتك..
ها هو الشتاء قد حل..
وها هو معطفك الصوفي في يدي..
أبحث بداخله عن جسدك الغض فلا أجد سوى صمت رائحتك..
وها هي ألعابك تعاني قسوة رحيلك وتبكيك..
كل الأشياء اشتاقت شغبك وصوتك وضحكاتك..
حتى سلة الكرات الملونة اشتاقت لصوت كفيك حين تصفق لنفسك وأنت تنتشي فرحاً لأنك قذفت الكرة فيها بنجاح..
أقلام التلوين التي كنت ترسم بها خطوطاً عشوائية ودوائر وسط دفترك الصغير الملون وجدتها مبعثرة تحت سريرك كما تركتها..
تخضب الشوكولاتة بعضاً منها..
لم أحاول التقاطها..
تركتها كما هي..
قربت منها أنفي لاشتم رائحة كفك ووجهي يستحم بماء عيني..
كل الحكايات التي كنت أحكيها لك قبل النوم ماتت معك..
لم يبق لي سوى آيات أنفثها في كفي وأمررها على جسدي لأشعر ببعض راحة..
وبعض قصاصات من الورق أصبغها بحبر وجعي..
طفلي..
رحلت وسجنتني خلف قضبان رحيلك..
وسط عذاب تصبه الذاكرة على روحي طوال اليوم..
وأمنية لا يفتر لساني من ترديدها :
« أريد أن أموت فليس ثمة ما يغري بالحياة .. ».
اتمنى لكم قراءة ممتعـــة....