(263) مدار الأفكار
مأساة حماة
يقول الشاعر العربي :
قُل لِمَنْ يأبى إلى الحقِّ استماعا=هكذا يُقتَلَعُ البغْيُ اقتِلاعا
هكذا ينتفضُ المظلومُ حتى=يرحلَ الظالمُ أو يُبدي انصياعا
إن مدينة حماة التي تقع شمال غرب سوريا بين دمشق الفيحاء وحلب الشهباء,تعد أقدم مدينة في العالم,ويرجع
تاريخها إلى ما قبل الميلاد,وهي رابع مدن سوريا من حيث السكان بعد حلب ودمشق وحمص,وتلقب بمدينة
أبي الفداء ( نسبة إلى ملكها العالم والمؤرخ الجغرافي الشهير أبي الفداء إسماعيل بن علي الأيوبي الذي توفي
سنة 732 للهجرة ) ,وفي تاريخها العتيد,ومجدها التليد يقول الشاعر وليد قنباز: (كم من قبائل حطّت فيك
عابرة*وأنت خالدة في مدرج الزمنِ,حتى إذا جاءك الإسلام مُؤتلقاً*عانقته كعناق الروح للبدنِ) ,فهي مدينة
البطولة والفداء,وقلعة الصمود في وجه الغزاة الصليبيين والأعداء,وشوكة في حلق الفرنسيين والدخلاء,وتقع
مدينة حماة على ضفاف نهر العاصي وتزينها الحدائق والبساتين,وتميزها النواعير تعود إلى عصر الآراميين,
وتحفل بالأوابد الأثرية والمعالم التاريخية,وفي وصفها يقول الشاعر: ( انزل حماة التي ما مثلها بلد*بكل دان
من الأهلين أو قاصي,ترق قلباً لأحوال الغريب بها*حتى نواعيرها تبكي على العاصي ) ,ولسنا بصدد سرد
تاريخ حماة القديم وخروجها من حوزة ودخولها في أخرى ولكننا نطرق مأساتها ومجازرها في العصر
الحديث والتي عناها الشاعر بقوله: ( قالوا:حماة فقلت:خير مدينة* فإذا بهم يبكون من ذكراها ) ,ففي الثامن
من شهر مارس عام 1963م وعندما وصل العسكر في سوريا إلى السلطة على ظهر دبابة وأعلنت حالة
الطوارئ والأحكام العرفية وألغيت الحياة المدنيّة والانتخابات البرلمانية ومنعت الأحزاب والحريات وفرضت
على المجتمع الأفكار الإلحادية التي تقول: ( يا أخي قد أصبح الشعب إلهاً*ولا تسل عني ولا عن مذهبي,أنا
بعثي اشتراكي عربي,وآمنت بالبعث رباً لا شريك له*وبالعروبة ديناً ماله ثاني) ,كانت مدينة حماة المحافظة
والشجاعة في طليعة المدن السورية التي وقفت في وجه عنجهية الديكتاتوريات,ورفضت تكميم الأفواه وكبت
الحريات,ومنها انطلقت الشرارة الأولى للمظاهرات والتي عمت جميع مدارس حماة في السابع من ابريل عام
1964م وذلك ودفاعاً عن القيم ورداً على الاستفزازات وتحرشات المليشيات ومطالبة بالحريات العامة,و
تدخل الحرس القومي لقمع التظاهرات وعندما فشل تدخل الجيش هاتفاً: (هات سلاح وخوذ سلاح*دين محمد
ولّى وراح ) ,وبالحديد والنار قمعت المظاهرات وقتل حوالي سبعين من أبناء المدينة,ودمر مسجد السلطان
فوق رؤوس المحتمين فيه,وحكمت المحاكم العسكرية الميدانية بالإعدام على عدد كبير من علماء ووجهاء
مدينة حماة,واقتحمت المحال التجارية المغلقة ونهبت محتوياتها,واعتقل الكثير من المواطنين,ومنذ تلك الأحداث
ومدينة حماة هدفاً للتنكيل الطائفي,وقد تجلى الحقد الأعمى الدفين على هذه المدينة الآمنة في تصريحات القادة
من المرضى الساديين والطائفيين الحاقدين وخاصة العميد رفعت الأسد قائد سرايا الدفاع الذي قال في مرات
عديدة: ( سأمحو حماة من الخريطة,وستقول الأجيال اللاحقة كانت هنا مدينة اسمها حماة),وفي الثاني من شهر
فبراير عام 1982م داهمت القوات الخاصة وسرايا الدفاع المدينة واستباحتها بوحشية فاقت كل التصورات
فقصفت معظم الأحياء,واعتدت على أعراض النساء,وهدمت المساجد الأثرية وقضت على المعالم التاريخية,
واستشهد من أبناء حماة وبناتها أكثر من أربعين ألف شهيد,ويصدق فيها قول الشاعر الدكتور عبد الرحمن
العشماوي : (بلادُ الشامِ مازالت تعاني*ومازالت بحسرتها تُضامُ ,سلوا عنها حماةً فهي تبكي*وإنْ ضحكتْ
وأسكتها اللجامُ,وإنّ ترابها مازال يشكو*وفي ذرّاتهِ دمها الحرامُ) ,وفي عهد الرئيس بشار الأسد الوارث
للإجرام عن أبيه وعمه تتكرر المأساة,وتتجدد المذابح الجماعية,والإبادات السادية,وتستباح المحرمات,وتنتهك
أعراض العفيفات,ويقتل الشيوخ والأطفال والنساء,ويمثل بجثث القتلى,ويقال المحافظ الذي يرفض إطلاق
النار على المتظاهرين,ويتم قصف المنازل والمناطق بالدبابات والراجمات,وبالصواريخ والطائرات التي لا
تعرف طريقها إلى هضبة الجولان بينما تدك قرى سوريا ومدنها والمحافظات,وبالرغم من أن الإسلام قدس
الحياة البشرية,وصان حرمة النفوس,وجعل الاعتداء عليها أكبر الجرائم عند الله بعد الكفر به,إلا أن النظام
السوري وعلى مدى أربعة عقود قد انتهك حق الحياة المقدس الذي نصت عليه الشرائع السماوية والقوانين
والأعراف الدولية,قال الله سبحانه وتعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) [الأنعام:151] وقال
تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)
[النساء:93],وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لزوال الدنيا جميعاً أهون على الله تبارك وتعالى من دم امرئ
مسلم يسفك بغير حق: أو قال: يقتل بغير حق).
يا قاتل المسلم بلا ذنب وأسباب=ومن غير جرم ٍ يوجب الحد مكتوب
احذر عظيم الذنب واحسب له حساب=ترى العمل في لوح الإنصاف محسوب
الله عصم بين الورى دم الأرقاب = يا من بفي وغي دنياك موهوب
لا ترتكب للجرم من شأن الأحباب = والعذر ما ينجيك لو قلت مغصوب
دنياك لو تغريك دورات دولاب = وأيامها ما بين غالب ومغلوب
عبد العزيز الفدغوش
الأحــــد , 17 – يوليو – 2011