(258) مدار الأفكار
ضياء الإسراء
يقول الشاعر العربي:
فإن محمداً أسـري بليـل=إلى الأقصى من البلد الحرام
ويصحبه الأمين على براق=يخبـره بأحـوال جـسـام
إن حدث الإسراء والمعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر حدثاً له قيمته العظيمة في حياة الأمة
الإسلامية من لدن بعثة النبي إلى يوم القيامة،وذلك لما يحتويه من معانٍ قيمة، ومشاعر طيبة وذكريات خالدة
مرت برسول الله وصحابته الأجلاء، فقد شاء الله تعالى الذي لا راد لمشيئته سبحانه، القادر على كل شيء، أن
يسري بحبيبه المصطفى من البيت الحرام إلى بيت المقدس ثم العروج إلى السماوات العلا ثم اللقاء بجبار
السماوات والأرض سبحانه، قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء :1)، فالإسراء آية من آيات الله
تعالى التي لا تعد ولا تحصى، وهو انتقال عجيب بالقياس إلى مألوف البشر وقد روى أئمة الحديث تفاصيل
الحدث فقال ابن القيم: (أسري برسول الله بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس راكباًَ
على البراق، صحبه جبريل عليهما الصلاة و السلام فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماماً وربط البراق بحلقة باب
المسجد)، ومن هذه الرحلة المباركة نتلمس الحكمة وقد عدَّد السيوطي مجموعة طيِّبة منها، فقال عن الحكمة
من الإسراء: إنما كان الإسراء ليلاً لأنه وقت الخلوة والاختصاص عُرْفًا، ولأنه وقت الصلاة التي كانت
مفروضة عليه في قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ) (المزمل: 2) ويقول الشيخ أبو محمد بن أبي حمزة: (الحكمة في
الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحقّ لمعاندة مَن يُريد إخماده؛ لأنه لو عُرج به
من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلاً إلى البيان والإيضاح، فلمَّا ذَكَر أنه أُسْرِيَ به إلى بيت
المقدس سألوه عن تعريفات جزئيات بيت المقدس كانوا قد رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلمَّا
أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه في ما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صحَّ خبره في ذلك
لزم تصديقه في بقيَّة ما ذَكَرَه، فكان ذلك زيادةً في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد والمعاند) ومع ما
ذُكِرَ من حكمة إسراء النبي إلى بيت المقدس أوَّلاً فإن هناك دلالة أخرى على مدى ما ينبغي أن يُوجَد لدى
المسلمين في كل عصر ووقت، مِنَ الحِفَاظِ على هذه الأرض المقدَّسة، وحمايتها من مطامع الدُّخلاء، وأعداء
الدين، وأمَّا الحكمة من المعراج فإنَّ في دلالة اختيار النبي للَّبن دون الخمر، دلالة رمزية على فطرة الإسلام
ونقاوته الأصيلة، الموافقة للطباع البشريَّة كلها، كما أن في بقاء أبواب السماء مغلقة حتى استفتح جبريل ولم
تتهيَّأ له بالفتح قبل مجيئه أنها لو فُتِحَت قبلُ لظُنَّ أنها لا تزال كذلك، فأُبْقِيَتْ لِيُعْلَم أن ذلك لأجله، ولأن الله
تعالى أراد أن يُطلعه على كونه معروفًا عند أهل السموات؛ من أعظم ما نستفيده من رحلة المعراج بيان
أهمية الصلاة وعظم شأنها حيث فرضت لوحدها بين أركان الإسلام في السماء السابعة فكانت الركن الثاني
بعد الشهادتين، وأصبحت قُرَّة عين النبي، وبهذه الحادثة الجليلة أوضح الله تعالى بها أنه قادر على كل شيء،
وأن محمدًا الفقير المعذَّب هو وأصحابه في مكة استطاع ربُّه جلَّ وعلا أن يوضِّح له مدى الضآلة التي يعيش
فيها هؤلاء الكفرة، بل جعله الله خير خلق الله تعالى، فبإمامته للأنبياء في المسجد الأقصى وعروجه على
الأنبياء الصالحين في السماوات السبع، ثم وصوله لسدرة المنتهى يكون النبي قد أُلبس من العظمة الربانيَّة
رداءً لم يلبسه أحدٌ من قبله، ولن يلبسه أحد من بعده، فحادث الإسراء والمعراج لم يكن إلاَّ درجة من درجات
التكريم، ووسيلة من وسائل التثبيت، ولونًا من ألوان الاختبار، تجلَّى به على عبده ونبيِّه، وأسبغ عليه مِن بحار
الفيض والإمداد ما تمكَّن به في مدَّة وجيزة أو ساعات معدودة أن يكشف عن طريق المعاينة كثيرًا من آيات
ربِّه وعجائبه، في أرضه وسمائه، أَسْرَى به من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام، ثم عرج به
إلى سدرة المنتهى، إلى حيث شاء ربُّ العزَّة والملكوت ووردت الإشارة إلى المعراج من دون التعرض
للإسراء ضمن سورة النجم: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى • ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى • وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى • ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى • فَكَانَ
قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى •فَأَوْحَى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى • مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى • أفَتُمارُونَهُ على ما يرى• ولقد رآهُ
نَزلَةً أخرى• عِند سِدرَةِ المُنتهى• عِندَها جنَّةُ المأوى إِذ يغشى السِّدرَةَ ما يغشى• ما زاغ البصرُ وما طغى• لقد
رأى مِن آيات ربّهِ الكُبرى) (النجم : 12 – 18).
سبحان من بأمره سرى فخر الأجيال= على البراق اللي سرى تالي الليل
للقـدس من مكة ومعراج الأهوال = في رحلة ٍ ما يصحبه غير جبريل
تحقق الإعجـــاز وآمال وأنفال =من بعد عام الحزن والعسر والميل
الله كتب للمصطفى قدر وإجلال= حتى بلغ سابع سماء حسب ما قيل
ترى الحدث بالنص يذكر ولا زال = والنجم والإسراء بها خير تفصيل