آداب الاختلاف بين العلماء
آداب الاختلاف بين العلماء
ماذا قال القرضاوي بحق طنطاوي؟ http://www.akhbaralaalam.net/images/news/29242.jpg
يعتبر الاختلاف من ثوابت نظام الخلق وقانون يعيش في دائرته جميع المخلوقات، والاختلاف بين البشر أمر طبيعي وضروري يعود على المجتمع بالنفع، فبالاختلاف البعيد عن المصالح الشخصية والهوى النفسي، تتفجر الطاقات وتنمو القدرات، وخاصة اذا كان هذا الاختلاف بين الأفكار والآراء لدى شريحة من الناس تعتمد الأمة الإسلامية على نتاجها الفكري بشكل كبير وهي شريحة العلماء.
وأيا كان نوع الاختلاف وطبيعة المختلفين فإنه لا بد ان يكون له آداب يجب احترامها ومراعاتها، وهذه الآداب منها ما هو اخلاقي كاحترام الآخر، وعدم سوء الظن به، واجتناب غيبته وعدم تصيد الأخطاء له.
ومنها ما هو علمي، كالقدرة على ابداء الرأي، الموضوعية وانصاف الرأي الآخر، والبحث عن الحقيقة اما الآداب الاجتماعية فتتمثل في قبول الاختلاف، الابتعاد عن اسقاط الآخر اجتماعياً، حق إبداء الرأي، هذه الآداب وغيرها يجب مراعاتها وعدم تجاوزها، أو الانزلاق إلى لغة متدنية في الحوار، أو اتهام الآخر والطعن فيه لمجرد اثبات انه على خطأ، كما هو حاصل بين كثير من أهل العلم، ماجعل العامة يفقدون الثقة في ما يقدمونه، والانصراف عنهم، وهذا ادى بالطبع إلى التشكك والتشرذم والاختلاف، وهي أمور مذمومة لا يجب ان يكون لها وجود بين المسلمين. وحتى نؤكد على ضرورة آداب الاختلاف ومراعاتها عن كبار العلماء نضرب مثالاً بما جاء عن فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في بيانه الذي اصدر بعد وفاة فضيلة شيخ الأزهر السابق الدكتور سيد طنطاوي رحمه الله تعالى.
فقد تناقلت وكالات الأنباء بياناً أصدره فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين احتسب فيه عند الله تعالى فضيلة الأخ الكريم، والصديق العزيز، الإمام الأكبر الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، الذي وافته المنية في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية. وقال فضيلته في البيان: لقد عرَفتُ شيخ الأزهر منذ كان طالبا في كلية أصول الدين، وقد دخلها عقب تخرُّجي فيها سنة 1953م.
وقد أخبرني بأنه عرَفني قبل أن أعرفه حينما زرتُ معهد الإسكندرية، وكان طالبا فيه بالمرحلة الثانوية، وكنتُ طالبا في كلية أصول الدين ورئيسا لاتحاد طلاَّبها، وقد ألقيتُ خطبة أعجبت طلاَّب المعهد، ومنهم الطالب طنطاوي.
وكان بعد تخرُّجه يخطب في أحد جوامع منطقة شبرا، وكان يزورني بين الحين والحين، وأنا أسكن في حدائق شبرا، ويشاورني في بعض المسائل العلمية، وبعد زواجه اعتاد أن يزورني مع أهله وتعرَّفت زوجته بزوجتي.
وأضاف فضيلته في البيان: أذكر أني حين اعتقلتُ سنة 1962م في قضية لا ناقة لي فيها ولا جمل، ذهب ليزورني، ففوجئ بأني معتقل فعرض على زوجتي أن تكلِّفه بما شاءت من خدمات ليقوم بها هو وزوجته. وحين كان يحضِّر رسالته للدكتوراه، وموضوعها (بنو إسرائيل في الكتاب والسنة) كان يتردَّد عليَّ، ويتناقش معي في بعض القضايا المتعلِّقة بالموضوع، حتى بعد إعارته للعراق ليخطب في أحد مساجد البصرة لعدَّة سنوات.
وقد طلبتُه أستاذا زائرا بكلية الشريعة في جامعة قطر، حين كنتُ عميدها، ثم بعدها بقليل عُيِّن مفتيًا للديار المصرية.
وظلَّت العلاقة بيننا على ما يرام، حتى بدأ الشيخ ينهج نهجا جديدا في الإفتاء لم أرضَ عنه، ولا أكثر علماء المسلمين في مصر وفي غيرها، ولا سيما ما يتعلَّق بالبنوك وفوائدها، وهو ما اضطرَّني أن أردَّ عليه بقوَّة، وخصوصا في كتابي (فوائد البنوك هي الربا الحرام). فالحقُّ أقوى من الصداقات، والعلم فوق المودَّات.
وحدثت بيننا قطيعة فترة من الزمن، وحدثت معركة بينه وبين الأخ الصديق الأستاذ الدكتور علي السالوس الذي كان أستاذا بكلية الشريعة بجامعة قطر، وقد هاجمه بعنف وحدَّة في مقالات وفي رسائل، ما جعل الشيخ يرفع عليه دعوى في المحاكم المصرية أنه تعدَّى عليه، وخرج عن حدوده، وعُيِّن يوم للمحاكمة.. وكان الشيخ يستعين ببعض الشهود، والسالوس يستعين ببعض الشهود وأنا منهم. وذهبنا للمحكمة، وتجمَّع حشدان من علماء الأزهر، هذا مع الشيخ وهذا ضدُّه، ولكن الحكماء من إخواننا ومنهم الدكتور أحمد كمال أبو المجد، تداركوا الموقف وأقنعوا الشيخ بضرورة الصلح والتنازل عن الدعوى، وقَبِل الشيخ رحمه الله، حفاظا على سمعة العلماء ووحدة صفِّهم وحسب ذلك في ميزانه، وسُرَّ الجميع بهذه النتيجة.
وقال الشيخ القرضاوى في بيانه: بعد أن عين الشيخ طنطاوي شيخا للأزهر تقابلنا في ندوة أو مؤتمر في الكويت، فبادرني الشيخ رحمه الله بالتحية والمصافحة، ونسي ما وقع من خصومة، وأبى أن يتقدم علي في دخول أو خروج، وكان هذا دأبه معي، حتى وافاه الأجل رحمه الله، أدبا وتواضعا منه. وقد قلتُ مرَّة قدمني فيها أمام الملأ: إنَّ الشيخ يحترم السنَّ، وأنا أكبر منه بأربع سنوات، فقال: بل بسنتين فقط، فقلتُ: أنت دخلتَ الكلية بعدي بأربع سنوات، وأنا دخلتَ الأزهر ابن أربعة عشر عاما. قال: ولكني دخلتُ الأزهر ابن ستة عشر عاما.. وقلتُ له مرَّة: أنت شيخ الأزهر، أكبر وأشهر منصب علمي ديني في العالم الإسلامي، ومن واجبنا أن نحترم هذا المنصب، ونقدِّمه على كلِّ مقام آخر. فقال رحمه الله: أنا أستحي أن أتقدَّم عليك، وأنت طول عمرك أستاذنا.. ولا ريب أن هذه المواقف تعدُّ غاية في الأدب والتواضع وحسن الخلق.
وقال القرضاوي: كان الشيخ طنطاوي دمث الخلق، لطيف المعشر، ولكنه ابن الصعيد حقًّا، لا يحسن التجمُّل ولا التكلُّف، بل يتعامل على السجيَّة، فهو طيب القلب يألف ويؤلف، ما لم يستفزَّه أحد بالحقِّ أو بالباطل، فيثور ويخرج عن طوره. وقد ظلَّ مدَّة يقول لي: لا بد أن تكون معنا في (مجمع البحوث الإسلامية).
قلتُ له: لعلَّ السياسة تمنعكم من هذا. قال: إذا صمَّمنا فلن يمنعونا، ولكن كانوا يقولون لي: قدِّم طلبا للانضمام إلى المجمع.. فقلتُ: كيف يقدِّم الإنسان نفسه لمجمع ما ؟.. المفروض أن يرشِّحه مَن يرونه أهلا من أعضاء المجمع، ثم ينظر المجمع في قبوله أو رفضه. قالوا: هذا نظام مجمع البحوث. وأخيرا لقيني الشيخ بالسعودية، وقال: لا بد من إجراء لقَبولك في المجمع فساعدني عليه، أريد فقط أن توقِّع لي على ورقة بيضاء، وعليَّ أن أملأها، وأن أتولَّى تقديمها للمجمع وأنهي كلَّ الإجراءات بعد ذلك، وعرض الشيخ الطلب على المجمع، وووُفق عليه بالإجماع، على ما نُشر.
وأضاف الدكتور القرضاوى: كان رحمه الله أستاذا متميِّزا في التفسير، عاش عمره مشغولا بتدريسه، وألَّف فيه تفسيره الوسيط، حتى أني رشَّحتُه ليكون بديلا عني في تفسير القرآن الذي كان يشرف عليه الإذاعي المعروف الأستاذ محمد الطوخي، وكان فيه مجموعة من كبار المشايخ: الشيخ الغزالي، والشيخ عبد المعز عبد الستار، ود. الأحمدي أبو النور، ود. عبد الله شحاتة، ود. حسن عيسى عبد الظاهر، ود. محمد المهدي، والفقير إليه تعالى، وكنت قد اشتركت في تفسير الربع الأول من القرآن الكريم، ثم حدثت ظروف اقتضت أن أتخلف عن الربع الثاني والربع الثالث، وأن أشارك في الربع الأخير، فطلبوا مني أن أرشح لهم مفسرا بدلي، فاقترحت عليهم اسم الدكتور طنطاوي، وقام بالمهمَّة على ما ينبغي.. ولكن الشيخ قد أدخل نفسه - أو أُدخل - في (بحر الفقه)، وهو لم يهيئ نفسه له، لا دراسة ولا ممارسة ولا تأليفا، ولم يتمرَّس على السباحة والغوص في أعماقه، فكثيرا ما خانه التوفيق في آرائه الجريئة، وهذا سرُّ اختلافنا معه، رغم المودَّة القديمة بيننا، ولكن كما قال الإمام ابن القيم في خلافه مع شيخ الإسلام إسماعيل الهروي الحنبلي، صاحب كتاب (منازل السائرين إلى مقامات إياك نعبد وإياك نستعين) الذي شرحه ابن القيم في موسوعته الصوفية (مدارج السالكين).
وكان كثيرا ما يختلف في شرحه مع مصنِّف المتن، ويردُّ عليه، ويبيِّن خطأ موقفه، فلما سُئل في ذلك قال: شيخ الإسلام حبيب إلينا، ولكن الحقَّ أحبُّ إلينا منه.
وهكذا ينبغي أن تكون مواقف العلماء، لا تؤثِّر الصداقة ولا العداوة على مواقفهم العلمية الفكرية، كما قال تعالى: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، وقال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].. لقد خالفتُه في عدد من القضايا، وبخاصَّة تلك التي تتصل بشؤون الأمة، وعَلاقتها بالعالم من حولها، مثل استقباله لأكبر حاخامات إسرائيل في مكتبه، ومثل تبريره لفرنسا في منع حجاب الطالبات المسلمات في المدارس، بناء على أن كلَّ دولة حرَّة في اتخاذ ما ترى من قوانين، ناسيا أنه ليس من حقِّ أي دولة أن تسنَّ قوانين تُلغي الحرية الشخصية، وتناقض الحرية الدينية، وهما من أقدس حقوق الإنسان, وغير ذلك من المواقف التي أثارت جدلاً واسعا في مصر، وفي غيرها من بلاد العرب والإسلام.
وتابع فضيلة الشيخ القرضاوي في بيانه: اليوم فصل بيننا الموت، الذي يفصل بين الأخ وأخيه، وبين الابن وأبيه، وبين الصديق وصديقه، كما يفصل بين المتجادلين بعضهم وبعض، وسيجمع الله بيننا في يوم لا ريب فيه، يوم تُبلى السرائر، ويحكم بيننا بالحقّ، وهو خير الحاكمين. وقد شاء الله أن يأتيه أجله في الرياض، وأن يُدفن في (البقيع)، بجوار قبور الصحابة والصالحين، وفي هذا بشارة خير. إننا لنعزِّي أنفسنا، ونعزِّي الأزهر الشريف بمعاهده وجامعته ومجمع بحوثه، ونعزِّي الشعب المصري، ونعزِّي الأمة الإسلامية في شيخ أزهرها، وإمامه الأكبر، وندعو الله أن يأجرنا في مصيبتنا ويخلفنا فيها خيرا. وقال فضيلة الشيخ: لا نملك لأخينا وصديقنا الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي إلا أن ندعو الله له أن يغفر له ويرحمه، ويعافيه ويعفو عنه، ويَسَعَه بعفوه ولطفه، وبره وإحسانه، ويغسله بالماء والثلج والبَرَد، وأن ينقِّيه من الخطايا كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس، ويسكنه فسيح جنته، إنه هو الغفور الرحيم، الشكور الحليم، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. جميع الحقوق محفوظة وحتى لاتتعرض
للمسائلة القانونية بسبب مخالفة قانون حماية الملكية الفكرية يجب ذكر :
- المصدر : شبكة الشموخ الأدبية
- الكاتب :
فيلسوف الكويت - القسم :
منتدى المقالات والنقد - رابط الموضوع الأصلي : آداب الاختلاف بين العلماء |