الشعر وخاصة قصيدة النثر هي حديثٌ دائم له صفة الديمومة غير قابل للتوقف بعد الموت، حتى عندما يدخل الشاعر قبره وينام في هدوء أو ضجيج غير منشغل بنا فقد اجبره الموت على إعطاء ظهره لنا ووجّهه قسرا وِجهةً هو مُولّيها, فيظل نصه الشعر يتحدث عنه وعنا... في صوت وحديث يتواصل مع كل من يملك القدرة على الإنصات، حيث ليس ضروريا أن يكون الإنصات عبر أداة السمع التقليدية الأُذن والتي منحنا إيّاها الخالق، هذا ما سيطر علىّ عندما أنصت وقرأت وعشت الحياة بخفة مع عماد غزالي في ديوانه الصادر عن الدار للنشر والتوزيع في القاهرة عام 2008 في طبعته الأولى الذي أعطى له عنوان «المكان بخفة».
كان انتظار العابر ملمحاً مهماً في الديوان... كونه عابرا كان لابد ألّا تكون هناك أيديولوجيات محددة مسبقة أو سمات معينة أو مواعيد محددة للقاء، ولكنه حدث الانتظار فقط بكل ما يحمله من دلالات، وكأن الشاعر يقف في شارع مزدحم ويملك جسدا شفافا وغير مرئي حيث الجميع يعبره دون أن يُرى أو يُحس أو حتى يُلتفت إليه، حيث انه لا يأخذ حيزا من كتلة العالم,لذا لجأ إلى الشعر وانتظار العابر والقادم وفي هذه الحالة كان لابد أن يكتشف «ص21»:
الشوارعُ الجديدة
تتفهَّمُك أكثر
تفتحُ لك صدرَها العاري
وتتبخترُ أمامك
باختيالٍ محببٍ إلى النفس
وقد كانت عمليات الانتظار متعددة للقادم والعابر يسيطر عليها حالة من المشهدية التي يمتاز بها الشاعر، فيبدأ في التسجيل والرصد ويمكن أن تكون المفاجأة في كون العابر هو الشاعر نفسه.
ولقد نفى غزالي تماما تهمة القطيعة عن قصيدة النثر، خصوصا عندما أحدث نوعا من التناص مع قصة موسى والخضر في قصيدة جامع الثمار.
كما كانت حالة الوصف والتشريح الدقيق لحالة الشاعر الحسية والمعنوية وعلاقته مع العالم بكل التفاصيل الصغيرة جدا، والتي ربما تمر على الآخرين ووقف الشاعر لها بالمرصاد ليتعرف على حالته أولا ويستوعبها ثم يقدمها لنا، وهاهو يَِِعدنا ويَعد الأُخرى دون تحديد مكانها الأنثوي من قلب الشاعر ص 71
سأراوغُ ساديّتى اللعينة
أروّضها
حتى تتبّدلَ
وعن العالم المحيط وكيف أننا في سبات عميق من عدة عقود ولا أمل فينا، وعن علاقة الشاعر بهذه الحياة الرتيبة التي لا تتغير في كثير كانت قصيدة النهوض عن المِقعد ص73، حيث يحدد بشكل يقيني جدا مناقض جدا لموروثات قصيدة النثر ولكنه في نفس الوقت مُبرهن على علاقة الحبل السري الملطخ بدم الخيبة مع هذه الشوارع المكونة لِأرض هذا البلد، والناس الذين يذهبون إلى مالا يعرفون، فيقول ص 75
من السّهلِ جدا
أن تأخذكَ سِنةٌ من النوم
على المقهى
لتنتبهَ بعد سنوات
فتجد كلَّ شيء على حالِهِ
إلا قليلاً
وفى قصيدة الآن... غير ممكن 79 يقدم المزيد عن الحياة وعلاقته بها في حديث داخلي ننصت إليه عندما تقرأ عيوننا الديوان في غُرفنا المغلقة حتى نهرب من الضجيج الذي يُحدثه غزالي حولنا ويتحول إلى موسيقى تصنع حالة من الإدمان تحتاج إلى علاج شديد القسوة يكون الهروب من سطوتها أولى الخطوات، ويكون أيضا كما قال الشاعر «ص81» :
لاوقت هناك ياأخي، ولا فرصة أيضا, لتتراجع هكذا
وتنسحبَ إلى داخلك.