(13) تساؤلات منطقية .. المثالية .. !!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أعضاء وزوار منتديات شبكة الشموخ الأدبية
تحية طيبة وبعد ،
نعود من جديد مع تساؤلات منطقية جديدة
تساؤلات منطقية
ذات يوم وعلى أحد ضفاف البحر الأبيض المتوسط، وفي وقت الغروب تحديدا،
كنت جالسا على ذلك الشاطئ مودعا لذلك اليوم الحزين، اليائس. وعند انخفاض
الأنوار أغمضت عيني حتى لا أرى وجه ذلك الغريب الذي يود الرحيل عنا إلى
غير ملتقى. في أثناء إغماض عيني في تلك اللحظة، عاد إلى ذلك الصوت الذي
طالما يناقشني في بعض الأفكار التي دائما ما أحكم عليها بالإعدام نسيانا وكبتا.
صاح الصوت عاليا، لماذا؟ لماذا؟ لماذا أغمضت عينيتك؟ ، أغمضت عينيك
كي لا ترى، ومنذ متى وأنت ترى أساسا. أنت لا ترى إلا ما تريد أن تراه،
وهل تعتقد إن أغمضت عينيك سوف يتوقف الوقت عند تلك اللحظة التي خشيت
رؤيتها، أم أن تلك الحادثة لم تحدث أساسا، لنقول أنك تخشى من مشاعرك
تجاه لحظات كلحظات الوداع.
فصمت أنا قليلا، ثم قلت أهلا وسهلا بعودتك، فلما أنت غاضب مني، نعم جميعنا
يرى ما يريد أن يراه فقط، وإن كان ذلك لا ينفي وجود الأشياء الأخرى في الوجود
أساسا ولا نراها، إلا أن تلك الموجودات لا تنساب مع أفكاري ولا تناسبها فأفضل
أن لا أراها. حتى لا تزعج أفكاري ولا أنزعج منها.
فضحك ذلك الصوت بسخرية، فقال غريب أنت يا صديقي، ووجه الغرابة يكمن
بأنك نسيت أشياء كثيرة في تلك اللحظات التي أغمضت عينيك بها، قتلت بها الكثير
من الأحاسيس والشعور بما يدور حولك. وبنيت لنفسك عالم خاص وبيئة خاصة،
تلك البيئة خصبة لنمو أهواؤك وميولك بعيدا عن الواقع والحقائق. فجعلت نفسك
الخصم والحكم، ومالك تلك المملكة التي لا وجود لها سوى في خيالك أنت، وأنت
وحدك من تعيش بها، وفق قانونك الخاص. ولا يتجرأ أحدا الدخول إليها عنوة
إلا أن تسمح له بذلك.
فأخذت أنا نفسا عميقا، وقلت ما في ذلك من ضرر،أعيش وفق قانوني الخاص،
قانون أضعه أنا لنفسي ينظم حياتي وأحترم وجوده وألتزم بما قد وضعته من قانون.
أليس أفضل من آلاف بل الملايين من القوانين الموجودة بالفعل ولا أحد سلك وفق
تلك القوانين؟ بل الأدهى من ذلك من خلال سلطة القانون وباسمه من الممكن
أن تسلب الناس حقوقهم، وحريتهم، وحياتهم، وأشياء كثيرة. إما جهلا بفهم
ذلك القانون وتبعيته، أو عدم اقتناع واحترام لذلك القانون.
فرد علي بصوت خافت، لا يا صديقي، أن كان كل فرد في المجتمع يريد أن يضع
القانون لنفسه، لن تجد حياة على هذه الأرض، وسوف تعود حياة الغابة إلى الوجود
من جديد. سوف تنتفي المثالية في هذا العالم وتسود الواقعية، بل الأدهى من ذلك
سوف تنتحر الإنسانية وتتفشى الوحشية. ولا تنسى قول أنت تردده "المساواة
بالظلم عدل" قانون يطبق على الجميع خيرا من عدم وجود قانون.
فقلت أنا عذرا صديقي، ألم تعلم أن وفق مبادئ من علمونا المثالية، أن المثالية
قد انهارت في هذا الوجود. رغم عدم تصديقي بذلك وعدم قناعتي بذلك القول التي
أتى من أكثر من ملامح ثقافية، تلك المثالية التي يدور أصلها اللغوي حول "الخير،
الفضيلة، والسمو نحو المثل العليا بواسطة التعقل الفكري" أما ما تعنيه المثالية
اصطلاحا بأنها صور عقلية تعبر عن الحقيقة النهائية للعالم بلغة الفكر" كما تعرف
المثالية كمذهب "يعتقد أصحاب هذا المذهب بوجود أفكار ثابتة ومطلقة وعامة وبما
أن الإنسان والعالم الحسي عالم ناقص فهو ليس المصدر الحقيقي لتلك الأفكار، لابد
أنها أتت من العالم الكامل الحقيقي وهو عالم الأفكار العلوية" فلا تنزعج كثيرا من
موت القوانين، فكل يوم يموت الآلاف بل الملاين من الأشخاص، ومعهم قوانينهم
التي وضعوها لتنظيم حياتهم، وفق معتقداتهم ثقافاتهم المختلفة.
فصاح ذلك الصوت قائلا، لا لن تموت المثالية، قل أن هناك ممارسات لا مثالية،
هناك أشخاص غير مثاليين، لا تقول أن المثالية قد ماتت، لأن بموت المثالية
هو موت ضمير الإنسان، لأن بموت المثالية هو موت القدوة لدى الفرد والمجتمع.
لابد في يوم أن تزال الغشاوة عن العيون، ويرى الإنسان ذلك الوجود على حقيقته،
وسوف ينزع إلى المثالية. رغم كل ما يوجد في هذا الوجود من نقص وانتهاكات
لروح القانون ونصه، إلا أن هناك لحظات يعلم بها الفرد أنه على خطأ وأن المثالية
قائمة وطريقها معروف.
يا صديقي، ماذا تفيد الفرد لحظات يعلم بوجود المثالية، وهو يعيش حياته كلها بلا
مثالية، بل بلا هدف، بلا يعيش وفق القانون الذي يجر المثالية إلى الانتحار. أعلم
أنني سوف أغضبك قليلا وأستفزك بما سوف أقول إلا أنك يجب أن تعلم. على مدار
عشر سنوات من العمل في أروقة التعليم ماذا وجدت، وأنت تعلم بما يجري هنا وهناك
من انتهاكات صارخة، وشللية واضحة حتى من الأشخاص الذي كنت أعتقد أنهم
بعيدوا كل البعد عن الممارسات اللا مثالية. القمع للإبداع، التسلط وفق القانون لقتل
الطموح، تزييف التميز وفق قانون الشللية، العمل الكادح والمجهد لمخالفي أهواء
أفراد النظام، سرقة الأعمال ونسبها إلى غير أهلها، ويطول المقال بذكر تلك
الممارسات التي رأيتها أنت معي طوال السنين العشر العجاف.
فقال لي بصوت حزين، أعلم بكل ذلك ورأيته معك يوما بعد يوم، وكنت أقول
كيف تحمل ذلك؟ ولماذا؟ ما الذي يجبره على ذلك العمل؟ وكنت أردد البيتين
التالين "وعاقبة الصبر الجميل جميلة** وأفضل أخلاق الرجال التفضل" وكذلك
" ولا عار إن زالت عن الحر نعمة ** ولكن عار أن يزول التجمل". إلا أن الحياة
تستحق العيش رغم الكثير من السلبيات التي فيها. لا ألومك في كل ما تقوم
به من أفعال.
فبدأ ذلك الصوت يختفي شيئا فشيئا وهو يردد أبيات للشافعي التي تقول
" دَعِ الأَيَّـامَ تَفْعَـلُ مَا تَشَـاءُ، وَطِبْ نَفْساً إِذَا حَكَمَ القَضَـاءُ،
وَلا تَـجْزَعْ لِحَـادِثَةِ اللَّيَالِـي، فَمَا لِحَـوَادِثِ الدُّنْيَـا بَقَـاءُ،
وَكُنْ رَجُلاً عَلَى الأَهْوَالِ جَلْدا،وَشِيمَتُـكَ السَّمَاحَةُ وَالوَفَـاءُ،
وَإِنْ كَثُرَتْ عُيُوبُكَ فِي البَـرَايَا، وَسَرّكَ أَنْ يَكُـونَ لَهَا غِطَـاءُ،
تَسَتَّرْ بِالسَّخَـاءِ فَكُلُّ عَيْـبٍ، يُغَطِّيـهِ كَمَا قِيـلَ السَّخَـاءُ،
وَلا تُـرِ لِلأَعَـادِي قَـطُّ ذُلاً، فَإِنَّ شَـمَاتَةَ الأَعْـدَاءِ بَـلاءُ،
وَلا تَرْجُ السَّمَاحَةَ مِنْ بَـخِيلٍ، فَمَا فِي النَّـارِ لِلظَّمْـآنِ مَـاءُ،
وَرِزْقُـكَ لَيْسَ يُنْقِصُهُ التَأَنِّـي، وَلَيْسَ يَـزِيدُ فِي الرِّزْقِ العَنَـاءُ،
وَلا حُـزْنٌ يَدُومُ وَلا سُـرُورٌ، وَلا بُـؤْسٌ عَلَيْكَ وَلا رَخَـاءُ،
إِذَا مَا كُنْـتَ ذَا قَلْبٍ قَنُـوعٍ، فَأَنْـتَ وَمَالِكُ الدُّنْيَا سَـوَاءُ،
وَمَنْ نَزَلَـتْ بِسَـاحَتِهِ المَنَـايَا، فَـلا أَرْضٌ تَقِيـهِ وَلا سَـمَاءُ،
وَأَرْضُ اللهِ وَاسِـعَـةٌ وَلكِـنْ، إِذَا نَزَلَ القَضَـاء ضَاقَ الفَضَـاءُ،
دَعِ الأَيَّـامَ تَغْـدِرُ كُلَّ حِيـنٍ، فَمَا يُغْنِـي عَنِ المَوْتِ الـدَّوَاءُ"
وكلي أمل أن يعود ذلك الصوت حتى يعلم ما هي الخطة الخمسية القادمة
التي أنوي القيام بها. فإلى أن يعود فسوف أنتظره بفارغ الصبر.
فيلسوف الكويت
الإسكندرية، الخميس، 21 يوليو، الساعة 7 صباحا.