حــكــايــة أمــــي
للكــــاتب :ابــراهيم النمـــــلة .
أتمنى لكـــم قــراءة ممتعـــــة...-1-
قلت لها :-
= لا تغضبي يا أماه ... أغسلي همك بنظراتنا ... ولا يتعبك التفكير ... لا تعطي لصراخ أحرفهم ماء عينك ... سنكون نحن أول الحزانى هنا ... وهم سيبكون رحيلهم الذي تمنوه !!! ...
ولكن يا أماه ... سيكون حزننا مختلفاً جداً عن حزنهم !!! ...
نظرت بدهشة ممزوجة بدمع ندي طفح بين رموش عينيها لتدفعني تلك الدمعات لإجتراح المزيد من الحديث وأكملت :-
= لا تنزعجي كثيراً من رحيلهم ... فالأرض التي تركها لنا أبي رحمه الله باقية ، نعيش خطواتنا على وطئها ...
دعينا في رطوبة رحيلهم أن نحزن قليلا ... وبعدها سنتعود على رحيلهم ... أو على حزننا !!!
ولكن أبداً يا أماه لن ننسى رحيلهم وأبتسامتهم التي أشرقت يوما ما في دارنا !!! ...
سيعودون يا أماه ... لا تقلقي بشأن ذلك ... سيركضون خلف الحياة ولن يرتاحوا سوى على صدرك ولمسة يدك وكلمة شفاهكِ ...!!!
فالعين التي إعتادت النور صعب جداً أن تتأقلم في الظلام !!! ...
لنا يا أماه في طريق الحزن ألف خطوة وخطوة ... نستطيع بكل خطوة أن نرفع رؤوسنا !!! ...
أما رحيلهم سيكون صعباً عليهم ... فنظراتهم التي إعتادت أن تنظر إلى فوق ستكون برحيلهم في منصبة على موضع أقدامهم !!! ...
- 2 -
هي أمي ...أحمل قامتها في عيني .... وأقرأ تفاصيل نظراتها التي لا ترى سوى ظلال أجساد أبناءها جيدا ...
لها في وحدة صباحها حينما تأخذني عنها أسوار المدرسة الثانوية تسليةُ في أشعار لا تمل من تفردها على لسانها ....
تلك هي أمي .... لبست رداء السنين من نظرتي ...
ومشطت شعرها بابتسامتي ... وتكحلت برؤيتي ...
رأت الحياة من نافذة عيني ... وتنفست هواء صدري ...
فقدت أبي بموته ... ووجدتني أمامها أحمل وجه أبي !!! ...
عاشت عقوق أبناءها في وقتي ... وبكت قوة تحملي وصبري !!! ...
هي أمي ... تلك الشجرة المزهرة التي أخذت ارتفاع كف أبي لتظللني من لهيب شمس نجد !!! ...
- 3 –
لم يكن لأبنائها أن يسكنوا عندها ... سكنت أنا وهي دار أبي ... تعيش أنفاسي وحركاتي ... وأعيش أنا بقايا دموع الظلام في عينها .....
هم أخوتي ... تقاسمنا ذات صباح رغيف الخبز في افطارنا ... وأحتسينا جميعا من نفس إبريق الشاي ... لم يقل لنا الزمن كل عجائبه ... ولم نكن نعرف كل أسراره ، نتذكر وجه أبي ... وننظر إلى مكانه الخالي كل صباح ... وندعوا له بالرحمة والمغفرة ... ونلف نظراتنا إلى وجه أمي ونجدها تمضغ قطعة من الخبز ونسبغ عليها دعائنا بطول العمر والصحة لها ... كنا بجلستنا تلك كزهور منثورة على بساط حوشنا ... تستمد من أشعة الشمس قوة لساعات النهار المقبلة ... وكانت أمي هي نور الشمس !!! ...
لم ينقصنا سوى صوت أبي الغائب !!! ... وتوالت علينا السنين ... ليغادر أخوتي مقاعد الدراسة إلى مقاعد الوظيفة ... ويشع الفرح في أرجاء منزلنا مرات عديدة ... مرة حينما وزع أخي الكبير راتبه بالتساوي علينا وأزاد منه قليلا لأمي ... ومرة حينما أجتمعنا خلف صحن كبير مغمور بالأرز المختفي تحت ظهر خروف طبخ في المطبخ القريب من دارنا أحتفالا بأول راتب ... وعشنا الفرح الممزوج بالحزن سنين متتالية ... تزوج أخوتي وغادروا دارنا ... عمروا بيوتا تشبه في أجواءها بيت أبي وعاشوا على نغمات أصوات أطفالهم ... لم أننسى أنا ذلك الوجه الباقي لي من زاد الحياة ، حينما ترك أخوتي الزاد الباقي لي لوحدي !!! ...
أستقبل الصباح في وجهها وأودع النهار فوق احمرار رأسها ، فنظرتي قد أفطرت على رؤية وجه أمي بعدما صامت نظرات أخوتي !!! ...
حينما مات أبي ... تعب قلب أمي كثيراً بين حزن على فقدانه وبين هموم صراخنا ... سقطت ذات مساء ويدها على قلبها ... حملها خوفنا فوق دموعنا إلى المصحة ليقول لنا الطبيب أن قلبها قد تعب وأن مصيرها غرفة العمليات ليستأصلوا من رجلها عرقاً ليغطي رجيف الوجع في قلبها ...
- 4 -
لم يقف أحداً منهم عند عتبة دارنا !!! ...
كلهم مرقوا وكأن أمي لم تعد من غرفة العمليات !!!....
وبقيت أنا وأمي ... أطيب أوجاعها بكلمات الدعاء وأطيب نفسي بذلك الدعاء الممزوج بالدموع
يضيق النفس في صدر أمي وتضيق علي الدنيا ... أتوسد مخدتي بجانبها وأبداً لم تغفو لي عين ...
ويأتي الصباح محملاً بأوجاع الليل ، أعد الإفطار لأمي الذي أدسه في فمها بعد إحتجاجات عنيفة وأنتظر أن يذكر أخواني أن في هذا الدار أماً لا تزال تحفظ أسمائهم !!! ...
وحينما يتعب التعب في جسد أمي ألحفها بلحافها جيداً وكأني أسد كل المنافذ على الألم حتى لا يجد منفذا لجسد أمي لتنام قليلاً وترتاح من وجع الألم ووجع العقوق ووجع الماضي الذي لاتزال تذكره جيداً وتتحسر على إنقضائه !!! ...
وأسرح بعيداً عن ذلك المكان الذي يجمعني بأمي إلى وجوه أخوتي التي أكاد أن أنسى منها ملامحها
أخي الكبير ... كان يضع أمي بين هدبيه وحينما تزوج غسل هدبيه !!! ...
أنشغل بعد النقود والبحث عنها وفي خضم ذلك كان لا ينام في الليل ...
لم يطرد وجع وشكوى أمي النوم من عينيه ولكن قلق البحث عن ابتسامة أتعبته كثيراً ليودعها على صفحات وجوه أبنائه !!! ...
والذي يجاريه في سنين العمر ركض بعيداً عن مدينتنا خلف عباءة زوجته لأنها قالت له أن أبي وأمي هناك ينتظرون زيارتي ... ومرت سنين العمر ولم تنتهي تلك الزيارة !!! ...
أما أخي الثالث بكى كثيراً حينما دخلت أمي غرفة العمليات وأشتد الحزن به حينما زارها في قسم العناية المركزة وحينما خرجت أمي لدارها نسى عنوان دارها وأصبح يرسل لنا أحزانه ورأفته بأمي من خلال أسلاك الهاتف لأكبره في نفسي كثيراً حينما أستطاع أن يتذكر رقم هاتفنا !!! ...
وبقيت أنا ... لا أرتجي مجيئهم ... ولا أحلم بلقائهم ... ولكن ... من يقنع أمي بما حفظته جيداً من دروس أخواني في العقوق !!! ...
- 5 -
قالت لي أمي حينما أستشفت من فقر خطوات أبنائها على عتبة دارها خوفها علي :-
=- يجب أن تتزوجي !!! ...
نظرت إليها بدهشة وأكملت معلقة ابتسامتها التي بحثت عنها كثيرا في الليالي الماضية :-
=- لن ينفعك أحداً ...
- بنبرة حزن أعتلت صوتها ووجهها قالت :-
=- أخوانك لن ينفعوك ... أنظري إلي ... أنا أمهم ولم يرحموا ضعفي وكبري ومرضي
تركوني ورحلوا ... ولولا الله ثم أنا لنسوا أحرف أسمك ...
نفس الألم الذي يحاك بصدري قد حيك بصدر أمي ...
ومحاولة مني لأبعاد أمي عن عقوق أبنائها وخوفها علي خوفا عليها قلت لها كلمات كثيرة عن انشغال أخواني وحبهم لها وسؤالهم الدائم عنها ومجيئهم وهي نائمة ... قلت كل ذلك وأستغفرت لخالقي على كذبتي لأمي !!! ...
لم يتعدى سني الخامسة والعشرون عاماً ...
رفضت كل من تقدم للزواج مني ... ليس كرها في الزواج ... ولكن خوفاً على أمي من أبنائها !!! ...
وبكت أمي رفضي هذا !!! ...
- 6 -
قالوا لي إنه رجلُ ذو أخلاق عالية ... يخاف الله كثيراً ...
ألحت أمي كثيراً على قبوله ... وتقاطرت ألسن أخوتي دفعاً لقبوله ... ووقفت أمامهم وقلت لهم :-
=- وأمي أين تذهب ؟!!! ...
جف تقاطر كلماتهم ونظر كل منهم إلى الأخر ولم يجيب على سؤالي أحداً ...
كبيرهم قال لي :-
=- إذا لم تشعري بالراحة نحوه فلك الحق في رفضه !!! ...
والذي يصغره قال لي :-
=- سنستقدم لأمي ممرضة تتوالى رعايتها معززة في دارها ولا تحملي همها !!! ...
أما الثالث منهم لم يقل شيء وكان ينظر إلى أخوته نظرات عنيفة حتى لا يقولون إنه الصغير ورحيل أمي عنده شيء طبيعي !!! ...
حويت كل ما قالوه ... وبعد صمت طويل وقفت وقلت لهم :-
=- أنا موافقة على هذا الرجل ..... ولكن أريد قبل كل شيء أن أتحدث معه ....
- 7 -
حينما قلت له عن حياتي وعن أمي وخوفي عليها قال لي بنبرة هادئة :-
=- أمي ماتت .... صمت للحظات ثم أكمل – ولكن من الأن لن أعتبر أن أمي ماتت !!! ...
ووقعت على عقد النكاح ........
قالت لي أمي :-
=- لقد دعيت الله كثيراً على برك معي أن يرزقك ويوفقك وقد أستجاب لي الله ...
وعبرتنا السنين ... لم يقل زوجي يوما من الأيام أن هذا الدار له أو لي ...
ودارنا الذي ورثناه عن أبي سكنت فيه عائلة لا أعرفها بعدما قبض أخواني ثمن سكنهم !!! ...
وفي مساء لم يأتني النوم فيه خرجت من غرفتي إلى غرفة أمي القريبة ووجدتها على سجادتها وبجانبها أقمشة قد شراها زوجي لها ويديها ترتفع إلى عنان السماء تدعو له ...
جلست بجانبها وحينما أنتهت من دعائها إلتفت إلي وقالت :-
=- الأن فقط يا بنيتي ... عوضني الله بأبن لا يحمل ملامح أخوتك !!! ...
p;JJJJhdm HlJJJJJd >