السلام عليكم ""
هذة القصة من كتــابات الكاتبة :هديل الحضيف(رحمهــا الله)
تناهى إلى سمعي بكاؤها وأنا خارج ، أغلقت الباب بقوة ، وهبطت الدرجات مسرعاً ،
محاولاً دفن صوتها في اللا شعور . .
ركبت السيارة وبقيت لمدة دون أن أشغلها . .
ثم أرخيت رأسي على المقود . .
كان صوتها يتردد داخلي ، كنت أحاول تجاهله دون جدوى ، فقد أحكم الحصار . .
- ليس ذنبي إن كنت لا أحبك . . تذكري أني تزوجتك من أجل رضا (الوالد) . .
لم ترد حينها ، لم تبك ، ولم تتحرك . . فقط تجمدت في مكانها دون أن يرتسم
على وجهها أي تعبير . .
تمنيت لو أني لم أقلها، وخرجت مسرعاً حتى لا أعذب نفسي برؤيتها..
في غمرة الإحباط الذي كان يكتنفني، أتى رنين الجوال ليردني إلى واقعي لم يكن بي رغبة ولا حتى إلى رؤية المتصل، كنت في حال لا تسمح لي بالحديث.
استمر الرنين وكأنه يجبرني على الرد..
- نعم.. لا.. لم أنس.. لكن قد أتأخر وقد لا آتي البتة!!.. أعذرني مزاجي ليس على ما يرام اليوم.. طابت سهرتكم..
أشغلت السيارة، ثم تحركت ببطء، رفعت رأسي لأرى نافذة الغرفة، أحسست أنها ما زالت تبكي، أدرت المقود ومشيت دون أن أحدد هدفاً..
لا أعلم كم هو الوقت الذي مضى وأنا أسير على غير هدى..
- ستتزوج ابنة عمك.. إن لم تتزوجها من يأخذها؟.. أتتركها للغريب؟!!
- أبي لكن هيا لا تناسبني.. كما أني لا أحبها..
- إذن من هي التي تناسبك؟.. هذا أنتم يا جيل (هالوقت) أثرت بكم المسلسلات والأفلام حتى أفسدتكم.. إني آمرك.. ستتزوج هيا.. وكلامي هذا لا رجعة فيه.. أتسمع؟!!
أبي.. ليتك تعلم ما الذي فعلته، هيا لا تستحقني، وأنا لا أستحقها، نحن كماء وزيت.. جمعنا في إناء واحد.. دون أن نختلط..
تنبهت إلى خزان الوقود الذي شارف على الانتهاء، انحرفت إلى أقرب محطة، لم يكن بها سوى عامل واحد، كان شكلي داعياً للشك.. مظهري لم يكن لائقاً.. فقد أخذ مني التفكير كل مأخذ.. كما أن وجودي في هذه الساعة ، وحده يبعث على كل ريبة..
- عشرون ريالاً يا سيدي..
دون أي شعور.. مددت مئتين، وأشغلت السيارة لأمضي دون أن أنتظر الباقي، أخذ العامل الورقة وتفحصها، ثم حدق في رقم سيارتي وانطلق للهاتف..
لم أستوعب ما يفعله.. ومضيت لحال سبيلي..
قدت سيارتي لخارج المدينة، كنت بحاجة ماسة للهدوء، أردت أن تكون الليلة ليلة اتخاذ قرار.. سأتخذ قراري الذي يحدد مصير هذا الزواج البائس..
لاحت لي من بعيد سيارات شرطة، لم أعبأ بها، كانت تقترب أكثر فأكثر.. حتى وقفت أحدها أمامي ونزل من بها طالباً مني أن أبرز بطاقتي..
أعطيته إياها، فنظر إلي متهكماً:
لا وتزور بطاقات أيضاً؟؟!!
فغرت فاي:
ماذا تقصد يا سيدي؟!
- أقصد أنك تنتحل شخصيات أناس لهم وزنهم..
- لم أفهم؟؟!!
- حسناً ستفهم هناك.. تستطيع مرافقتي لأفهمك..
كنت قد وصلت لحال من اليأس، تأكدت أن كل هذا بسبب زواجي (المنحوس).. منذ أن تزوجت لم أهنأ يوماً كاملاً، وها هي تكتمل اليوم بأن أساق إلى مركز الشرطة كمجرم.. عندما وصلنا للمركز.. رمي بي رمياً في التوقيف.. التفت إلى الشرطي:
لو سمحت.. إعرف من تتعامل معه..
طالعني بوجه لم يدخر وسعاً في جعله ينطق بكل التحقير لي.. ثم مضى..
أدرت بصري، كان كل ما حولي كئيباً.. جدران صفراء خط عليها كلام كثير بخطوط مشوهه.. وجوه كالحة وأعين غائرة..
اتخذت الزاوية البعيدة، وأسندت رأسي على ركبتي، ورحت أنشج نشيجاً خافتاً..
طالعت ساعتي التي كانت تحاول عبثاً أن تقنعني أنه قد مضى خمس ساعات على خروجي من المنزل..
عاد بكاء هيا إلى خاطري مرة أخرى.. كان يستفزني بقوة، أحسست بمزيج من الشفقة والكراهية، كنت أعتقد أنها سبب البلاء الذي أنا فيه، ثم أعود وأقول أنني أنا الذي ظلمتها دون وجه حق.
منذ ستة أشهر، وهي فترة زواجنا، لم أعاملها بلطف.. كنت جافاً غليظاً معها، لا أذكر أني ابتسمت لها ولا حتى يوم زفافنا.
- هيه أيها الصغير.. لم تعطك أمك وجبتك هذه الليلة؟؟!! وزلزل المكان ضحكات هستيرية..
لم ألق له بالاً، تجاهلته تماماً، حالتي لم تكن تسمح لي سوى بالتركيز على شيء واحد، وهو:
لِمَ أنا هنا؟
كان الليل يزحف ببطء، كل ثانية تعني لي ألف سنة، الجدران الصفراء تقترب وتقترب.. حتى خنقتني، صرخت بقوة، ثم فقدت وعيي..
(2)
فتحت عينيّ ببطء، كنت أحس بضعف عام، لم أتبين ما حولي.. لكني استطعت أن أميز أني خرجت من ذاك المكان الكئيب..
حسناً يا نايف.. يبدو أنك بدأت تستعيد قوتك.. ولكن لا تبذل أي مجهود حالياً.. لقد كتبت تقريراً..
وطلبت منهم أن لا يحققوا معك حتى تكون بصحة كاملة..
أي تحقيق يا دكتور؟!.. ما فعلت حتى يحقق معي؟!
نايف إهدأ الآن.. يجب أن تخلد للراحة تماماً.. حتى تستعيد كامل عافيتك..
وخرج تاركاً الحيرة أنيسي في هذه السكون الموحش..
(ليس هناك أي شيء غريب في هذه الدنيا.. لا تستغرب يا نايف.. إن وجدت نفسك ذات صباح في سجن دون أن تعلم ما السبب!!)
خالد.. أكنت تقرأ مستقبلي؟! لن أستغرب من شيء بعد أن تحققت كلمتك.. بعد ثمان سنوات..
خالد.. كم هو الزمن الذي يفصلني عنك؟.. كم هي المسافات التي تحول بيني وبينك؟..
ما الذي قفز بك إلى ذاكرتي في هذا الوقت بالذات..؟
ما الذي نفض عنك الغبار بعد كل هذه السنين..
أتعمدت أن تعود للضوء بعد أن كنت مدفوناً دهوراً في الظلام لتزيد ألمي..؟
أقصدت أن تظهر كي تذكرني، وأنا الذي لم أنس، بالفراغ الهائل الذي تركه رحيلك؟..
خالد..
كنت أظنك مقطوعة حزينة لم يبق سوى صداها يتردد بين حين وحين.. وإذا بك جرحاً طرياً ما زال ينزف.. ما زال ينزف..
- سيد نايف.. يجب أن تتناول إفطارك..
- لا أريده.. احمليه بعيداً..
- لكن الطبيب أصر وبشدة على أن تتناول طعامك..
- لا أريده!!
خرجت وقد يئست تماماً من إقناعي..
لم يكن بي أي شهية للطعام، فقدت كل إحساس بالرغبة بالحياة.. أردت فقط أن أنتهي وعلى أية حال.. زواجي.. سجني، عودة خالد إلى الذاكرة.. كلها تضافرت لتجهز على كل أحلامي..
- نايف... فعلك هذا سيزيد الأمر سوءاً..
- أبقي سوء بعد هذا؟!.. إذن أريد أن أجربه..
- نايف ساعدني لتخرج من حالة الإحباط هذه .. ثم تذكر أنه وحتى الآن لم تثبت التهمة عليك..
- أي تهمة تتحدث عنها يا دكتور؟.. صدقني أنا نفسي لا أعلم ما التهمة الموجهة إلي حتى تثبت أو لا تثبت!!
- حسناً.. تناول طعامك لتستعيد عافيتك، وتستطيع دفع التهمة عن نفسك..
- لست طفلاً يا سيدي.. أريد أن أعلم لِمَ أنا هنا؟! هذا سؤالي..
لم ألق إجابة، كنت متأكداً أنه يعتقد أني أدفع الجرم عن نفسي بهذه الطريقة.. فاستسلمت لألم زاد حالتي سوءاً، نقلت على إثرها لقسم العناية الفائقة..
(3)
- والده رفض فكرة الزيارة تماماً.. قال إنه لن يخسر سمعته بسبب خطأ ارتكبه ابنه..
حاولت جاهداً أن أكذب ما سمعته، أو أن أقتنع أن المعني غيري وغير والدي.. لكن لم يكن هناك أي مجال للتأويل.. أبي المتحدث.. وأنا المعني!!
ها أنت يا أبي تكرر قتلك لي.. ها أنت مرة أخرى تقدمني قرباناً لتجارتك..!
حسناً يا أبي.. فلتعتبرني بضاعة نفيسة عندك.. أو لتعاملني كرقم في دفاتر حساباتك العديدة.. علي أحظى بقليل من احترامك..
التفت إلي الطبيب على حين غرة، ولحظ الدموع أغرقت وجهي، أحس بخطئه، فرفع صوته قائلاً:
الله يهديه أبو الحسن رفض أن يزور ابنه!!..
لم يكن هناك أي وقت لتصحيح الخطأ، على العكس تماماً.. غرس النصل بقوة في قلبي ..
- دكتور.. ليست المرة الأولى.. ليست المرة الأولى.. ثم سحبت الفراش على وجهي لاستسلم لبكاء صامت طويل..
- لا تلعب مع أولاد الحارة.. فأنت لست مثلهم.. أنت ابن التاجر علي الجواهرجي..
- لكنهم أصدقائي..
- أيها المعتوه.. ألم أقل لك اتخذ أصدقاء من أمثال محمد بن صالح.. وعبد العزيز وأحمد أبناء فهد؟!
- لا أحبهم يا أبي..
- وهل أنا أشاورك؟!!
منذ متى يا أبي وأنت تجمع ثروتك على حساب حزني؟.. منذ متى وأنت تبني قصورك بدمي؟.. منذ متى وأنت ترفع أسهمك بتحطيمي؟!..
واليوم تمتنع عن أداء وظيفتك كأب.. كي لا تخسر وظيفتك كتاجر!!
ما زلت تحت الفراش عندما سمعت صوتاً يناديني.. كدت أصرخ:
كفى يا هيا.. أنت سبب البلاء.. يكفي أن هاجسك لم يفارقني مذ خرجت من المنزل تلك الليلة المشؤومة..
- نايف..
رفعت الفراش عن وجهي، ظاناً أن الصوت مجرد خيال سيزول حينما ألتقي بعالمي الواقعي الكئيب..
- هيا!!.. ما الذي أتى بك إلى هنا؟!
ندمت على ما قلت عندما رأيت عينيها..
- آسف.. لكن فعلاً يئست من أي شخص فضلاً عنكِ.. خصوصاً..
لمحت الطبيب وهو يبتسم ثم يغلق الباب بهدوء..
- إن لم أقف معك أنا.. فمن يقف معك؟؟
أردت أن أضمها . أن أكمل بكائي بين يديها.. أردت أن أعتذر عن كل ما حصل.. أحسست بحب جارف يدفعني لأن أقول.. هيا.. سامحيني ما كنت سوى جاهلاً.. لكني قلت:
صدقيني إني بريء.. صدقيني لم أعمل شيئاً..
بقيت صامتة، تنظر إلى لا شيء.. أحسست أنها تذكرني بليلتنا تلك.. كأنها تقول: ذق.. جرّب..
كنت أريد أن تقول أي شيء .. لكنها سكتت..
مرّ زمن طويل دون أن تتكلم حتى ضقت..
- هيا تحدثي.. أرجوك أي شيء.. قولي أني ظلمتك.. قولي إني شقاؤك.. قولي أي شيء..
نظرت إلي طويلاً ثم قامت..
كدت أجن عندما خرجت.. بأي حق فعلت هذا؟!.. كيف تذهب دون أن تريح قلبي المتعب؟!
كنت أريد أن تجمعني من جديد.. أن تلملم أشلائي المنثورة.. لا أن تزيد شتاتي..
أنا الطير الجريح..
أنا المبعثر المحطم..
أنا الراقص على عزف الألم..
أنا الممزق ... أسى..
أطاب لها بعد كل هذا أن تغلق الباب على حطامي وتغيب..
ذات مساء أمسكت
قلماً وكتبت .
ها أنت قد انتقمت لنفسك..
تعالي وانظري ماذا فعلتِ.. أصبحت مجرد خيال ملقى على فراش ينتظر نهايته..
تعالي وانقذيني من التيه.. من الضياع.. لم يبق سوى أنتِ.. لم يبق سوى نجم واحد يلوح بعيداً في الأفق خافتاً.. أخشى أن يختفي هو الآخر..
أردتُ أن أكمل، لكن خانتني..
عيناي..
يدي..
قوتي..
فرميت بالقلم لأنوح على بقايا عمري..
اتمنى لكم قــراءة ممتعــة ........
p'hl ulEJJJv >>>>>>>
p'hl ulEJJJv >>>>>>> p'hl ulEJJJv >>>>>>>