دخلت .. الساعة التاسعة إلا عشر دقائق . كان لتوِّه .. قد حضر مع السائق ، من صلاة التراويح . جسده الضعيف ، وقلبه المجهد ، لم يقفا حائلين ، أمام إصراره على حضور صلاة التراويح ، في المسجد مع الجماعة . سَلّمت .. قبلت رأسه ويده ، وكذلك فعلت مع والدتي ، وأخذت مكاني .. بجانبه .
تبادلنا أحاديث خاصة ، ثم أخذ زمام الكلام . تحدث عن فلسطين ، ومعاناة المسلمين هناك ، من اليهود . ثم تحدث عن ( الفلــوجة ) .. والعراق ، وَلَعَنَ أمريكا ، التي يسميها ( أم اليهود ) . تحسر على العراق ، وأيام قضاها هناك . انتقل بعدها للحديث عن أحداث عامة .. قديمة . بعضها شارك فيها ، وبعضها مضى أصـــحابها .. لكنه يملؤها حياة .
كنت أرقب كلماته ، التي ما فتئت أسمعها من سنوات .. لم تتغير ، لم يطرأ عليها نقص. عاديات الزمن ، ظلت تتساقط .. عند جدار ذاكرته الصلبة ، التي قاومت الاختراق ، ولم تستسلم لجحافل السنين ، التي زحفت .. تترك آثارها المدمرة ، على جسده المنهك ، ثم رفعت ( راياتها ) البيضاء .. عند أسوار عقله .
كانـــت الكلمات تخرج ، من بين براثن ألم .. يجاهد أن يخفيه . لم تفلح عزيمته القوية ، وإرادته الصلبة ، في أن تواري أثار الوجع ، التي تتبدى على ملامح وجه .. قاوم صنوف البلاء ، وكان في ذروة ساعات المحنة ، يملك قدرة غير عادية ، على تغييب كل أحاسيس الألم ، وآثار المعاناة .
وجه يبتلع كل مظاهر العناء ، وتبرق فيه عينان ، يغور فيهما الألم .. وجسد ظل ينتصب واقفاً .. كلما أوغلت فيه حراب البلاء .
سألته .. مستدرجاً إيّاه للحظة مصارحة :
- صوتك .. ما هو عاجبني ..!
نهـــض برأسه إلى الأعلى قليلاً .. كأنما خشي أن ينسكب الألم من عينيه المجهدتين .. وقال ، وهو يشير بشاهد يده اليمنى ، إلى رأسه :
- أبداً .. ما دام هذا سالم ، ويذكر الله .. فأنا بخير ..!
ظل يتحدث لأكثر من ساعة ، وكان ثمة تـواقيع لألم .. بقيت متناثرة على محيّاه . هو نفس الرجل العملاق ، الذي جاءني في السجن قبل سنوات ، بُعَيد الرحيل الملحمي .. لعبد الله ( رحـــــــمه الله ) .. وكنت على شفير وحشة ، تدق قلبي مطارق الألم ، وتعصف بكياني أنواء الفجيعة . غرس قبضة يده في عضدي .. وقال :
- اثبت ..
لم يبق في الخيال ، من ذلك الموقف ، إلا قامته .. التي شمخت أمامي مثل جبل ، والصمود الذي ضخته عزيمته الجبّارة ، في روحي المأزومة .. وما زلت أقتات عليه من سنوات . كان مؤمناً ، قويا .. ومذهلاً .
ودعته وخرجت .
الجمعة 15 رمضان 1425هـ :
الساعة الثالثة فجراً ، ينتفض جوّالي .. كنت قد جعلته على ( الصامت ) . بين يدي أوراق ، وضعتها جانباً .. والتقطته . تأملت الشاشة .. كانت أمي .
- السلام عليكم .. هلا أمي ..
- محمد .. أبوك تعبان ..!
ارتديت ملابسي ، وانحدرت سريعاً . حين وصلت ، كان يجاهد ، لينتزع من فضاء واسع حوله .. نسمة هواء . يضع يده على صدره ، ويستجمع قوى جسد نحيل ، عصف به ثالوث التوحش : الشيخوخة ، والأمراض .. والابتلاءات . لم تكن مظاهر الشيخوخة ، وأعراض المرض لتتوارى ، أو يكن قادراً على إخفائها . بقيت تلك الأشياء .. التي يتحكم بها عظماء الرجال ، فتفتك بهم . سهام البلاء ، إذ تنشب نصالها ، بأفئدة الرجال وأرواحهم ، فيقاومون عواصفها الهوجاء ، بهامات لا تنحني .. وشيمة الصبر .. والألم المتشظي ، يمور في الحنايا .
- ســــــــــــــــــــلامات ..
لم يرد .. أومأ برأسه . أحضرت حذاءه ، وقلت :
- نمشــــــــــــــــــي للمستشفى ..
في الطريق إلى المستشفى ، كان الألم الهائل ، يجثم على صدره .. يدافعه بكفين معروقتين واهنتين ، يعاقب بينهما في الضغط على صدره .. كأنما يزيح بهما الألم الرابض على القلب . مجرى الهواء الذي بدأ يضيق .. قَسّمه بين ذرات الهواء القليلة .. التي ينازع لإدخالها إلى قلب .. ما زال يقاوم ، وبين ذكر الله . كان اسم الجلالة ، يَرِدُ بين كل شهقة وزفرة .
التفت إليّ .. وفي عينيه رأيت رجاءً هائلاً :
- محمد .. العيال ، تراهم من هاذي الرقبة إلى هاذي الرقبة .
كان يشير إلى رقبته ، ثم يشير إليّ . عرفت أنه يقصد إخواني الصغار .. يوصيني بهم . خنقتني عبرة .. وقلت :
- عمرك أطول .. يا أبي ..
- هذا الحق .. يا محمد ..
- لا تتعب نفسك بالكلام .. الله يحفظك .
وصلنا إسعاف المستشفى .. كانت الساعة تقترب من الرابعة فجراً . نزل .. ومشى قليلاً . أحضرت له كرسياً متحركاً .. فجلس ، وأسرعت به . مظاهر الألم البادية على وجهه ، اختصرت الأسئلة التقليدية ، التي تثيرها الممرضات عادة ، عن حالة المريض .. قلت :
- يعاني من ألم شديد في صدره .. وضيق في التنفس . أخشى أن يكون القلب ، لقد تعرض إلى جلطات في القلب ، أكثر من مرّه .
أنهضته الممرضة من الكرسي ، ووضعته على سرير الفحص ، ثم تحدثت إلى الطبيب قليلاً . غابت لحظات ، ثم جاءت تدفع أمامها جهازاً ، قالت أنه جهاز تخطيط القلب . حين اضطجع ، وشرعت في وضع المحسّات والمجسّات ، المرتبطة بالجهاز على صدره .. فجأة انقلب لونه إلى الأزرق . صرخت هي .. والفريق الفني ، العامل معها ، وأخذت تنادي على الطبيب . جاء الطبيب مسرعاً .. واللون الأزرق ينتشر بســــرعة . مزّق الطبيب ثوبه ، والتقط جهازاً ، وصار يدفعه داخل مجرى الهواء في فمه .. وآخر وضعه على صدره ، يقوم أحد مساعديه بالضغط عليه . كان .. والفريق الذي معه ، يدفعون السرير إلى غرفة أخرى .. مجاورة .. وهو يصيح ، رداً على صراخي عليهم : ما الأمر .. ما الأمر .. ؟ :
- انخفض الضغط ، امتنع الأكسجين عن الجسم ..
ثم أكمل إعطاء توجيهاته ، للفريق الطبي معه .. باللغة الإنجليزية .
في الغرفة الأخرى ، كان كل شيء يتم بسرعة : وُضع على التنفس الاصطناعي ، وَفُتِحَتْ له فتحة في الشريان .. وانتشرت الإبر في أوردته ، تصب الأمصال ، في جسده المجهد . الزرقة زالت .. لكن القلب كان ضعيفاً . ينبض .. لكنه معتمد على الأجهزة المساندة .. لا يقوى بنفسه.
أمام حقيقة هائلة .. وقفت :
القلب الكبير ، الذي كان مأوى الرجال ، والنساء ، والأطفال .. عاجز أن يقوم بأعباء الجسد النحيل . القلب الكبير ، الذي صمد أمام ( الأزمات ) الكبيرة ، وقاوم كل مظاهر القسوة والتوحش .. تتربص به الآن ( أزمة ) قلبية عارضة . يصارع من أجل ( ذرة ) أكسجين ، وهو الذي كانت من قبل ، تتنـــفس قلوب كثيرة .. أحزانها ، من خلاله .. !
كان الأطباء والممرضات ، مشغولون بكتابة تقاريرهم ، ووضعها في الملف المعلق بالسرير ، الذي يرقد عليه . كنت أدور حول السرير .. ألمس جبهته ، أو أضع يدي على كفه ، أو قدمه . صدره يعلو ويهبط .. لكن الجهاز يقول ، أن قلبه ضعيف ، أن ضغطه منخفض . أريد أن أطمئن :
- كيف هي حاله .. يا دكتور ..؟
- حالته حرجة .. تعرض لأزمة قلبية ، لا ندري أسبابها بالضبط ..!
لو تعلمون أي هموم يحملها ، أي توحش وقسوة ، صادفها هذا القلب ، لعرفتم الأسباب .. ربما . هل يحتفظ القلب بأرشيف لهمومه وأوجاعه ؟ هل لديه ملف ، يحتوي على قضايا الغدر ، والقسوة .. والظلم ، التي مورست ضده ؟ ربما لو أعملتم المشرط فيه ، لانداحت عليكم الملفات والقضايا .. ربما .
لكنه لن يقبل .. حيث ستــــــخرج جماهير الـــــــــــناس ، من الرجال ، والنساء ، والأطــــفال ، ممن اتخذوا قلبه ( خيمة ) أخيرة . لن يقبل أن تمزقوا أوتار الخيمة .. فتنكشف عن أناس ، اتخذوه ملاذاً أخيراً .
لن يقبل .. لأن القلوب الكبيرة ، تختار أن تسكت ، دون ضجيج .. ولا تتوقف عن العطاء ، أو تقطع أوتارها ، فتبوح للناس ، عما فيها .. من وجع ، وقسوة .. وأناس اتخذوها ملاذاً .. خيمة أخيرة .
- هل سيطول بقاؤه على هذه الحالة ..؟
- لا ندري .. الله أعلم . سينقل إلى وحدة العناية المركزة .. للمتابعة ، على أمل أن يستعيد القلب نشاطه الطبيعي .
الساعة الثامنة الآن . أخبرتني الممرضة أنهم يجهزون له سريراً ، في مركز الأمير سلطان لجراحة القلب . أرادت أن تشعرني أن وجودي ليس له معنى .. وأن علي أن أذهب :
- في الساعة العاشرة سيتم نقله إلى هناك .. حيث سيكون سريره جاهزاً . تستطيع أن تتصل لتطمئن عليه .
طلبت منها رقم اتصال ، فكتبته على منديل ورقي ، ونظرت أمامها .. حيث ثمة ورقة مثبتة على الجدار ، تحمل مجموعة من الأرقام .. فقالت :
- … وهذا رقم التحويلة ..
وسجلته إلى جانب رقم التلفون . أخذت منها المنديل ، ثم اقتربت منه .. قبلت جبينه ، وخرجت .
اليوم الجمعة .. الطرق خالية . هل استوحشته المدينة مثلي ، فَخَفَتَتْ فيها الحركة ، وَخَفَت بها نبض الحياة .. مثلما هو الفراغ ، الذي بدأت أشعر به ، مثل هوّة سحيقة ، تتشكل في وجداني ، تهوي في قعرها ، معاني الرغبة في الحياة ,
بعــد الظهر اتصلت ، ردت ممرضة .. أعطيتها اسمه ، ورقم الملف الطبي ، وسألت عنه :
- لم يتغير شيء .. حالته ما زالت حرجة . من المستحسن أن تسأل الدكتور .. يكون موجوداً أثناء وقت الزيارة .
سألتها عن وقت الزيارة ، فأجابت ، أنها في الساعة الثالثة والنصف عصراً .. إلى الرابعة . جئت في وقت الزيارة .. سألت عنه ، فقالوا إنه في السرير رقم ( 9 ) . كانت الأجهزة هي التي تعمل ، وجوارحه تَبَعٌ لها . جسده ساكن ، وعيناه مغمضتان . لم يكن ثَمّةَ ( حياة ) .. إلا صدرٌ يعلو ويهبط ، موصول بعدد غير محدود من الأسلاك والأنابيب .
خاطبت الممرضة الجالسة إلى جانب السرير ، تدوّن ملاحظاتها عن عمل الأجهزة ، في بيان متعدد الخانات :
- أريد أن أسأل الطبيب عن حالته ..
- سأعمل له نداء .. ليأتي .
جاء الطبيب .. وذكر كلاماً عاماً ، لم يقنعني . أمام إلحاحي .. قال :
- ضغطه منخفض .. ( 70 ) كما ترى . يجب أن يرتفع فوق ( 90 ) .. ليتجاوز مرحلة الخطر . هناك التهاب في الصدر .. أضعف القلب ، وساهم في أزمته ، التي أدت إلى انخفاض الضغط . البكتيريا قوية ، ونحن نحاول أن نقاومها ، بإعطائه مضادين حيويين .
- …………………….
- الأدوية .. صحيح أنها تعالج ، لكن لها مضاعفات . تؤثر في حموضة الدم ، وهذا له ..
لاحظ أنه قد بدأ يدخلني في متاهات الأدوية ، عندما بدأت اقلب نظراتي ، بينه وبين الوالد .. فتوقف .
في المساء .. جئت في وقت الزيارة الثاني ، العاشرة والنصف . ما زال في (غيبوبة ) .. جسده فقط . روحه كانت تحوم في المكان . في جسد كل من أحاط بالسرير ، من بناته ، وأبناء بناته ، وأبناء أولاده .. قبس منها .
الوالدة وقفت إلى جانب سريره ، كأني بها تنادي .. ولا رجع صدى . في عينيها حديث طويل ، عبّرت عنه رعشة كفها ، وهي تضعها على جسده .. عند كتفه العاري .. تتحسس نبض الحياة ، لرجل طالما منحها الأمان .. و تَحَسَّتْ في كنفه طعم الرجــــولة . بدت .. بجـــــــــسمها الصغير ، وهـــــــــــي تنحني عليه ، مثل حـــــــــــمامة مبتـــــــــلة ، واقفة عــلى باب وكرها .. غادرها شريكها ، في ليلة سوداء شاتية ، مطيرة .. وحيدة لها نواح .
السبت 16 رمضان 1425هـ :
هذا صباح آخر .. يمضي بدونك ..
أعتدت أن أمر عليه كل صباح ، أو أغلب أيام الأسبوع . الساعة العاشرة ، حين اتصلت أسأل عنه .. كان قد مرّ أكثر من 30 ساعة ، على دخوله حالة اللاوعي . ذكرت الممرضة ، أن حاله كما هي لم تتغير .. ما زالت حرجة ، وإن كانت تنحو نحو الاستقرار . ثم قالت كلاماً لم أتبيّنه ، بسبب حديثها بلغة إنجليزية ، تغلب عليها لهجتها المحلية .
جـئت في موعد الزيارة الأول . وجدتهم يحيطون به .. الطبيب ، وعدد من المساعدين ، والممرضات . كانوا يتهيأون لنقله . سألت الطبيب عن الأمر ، فأجاب أن ضربات القلب غير منتظمة .. مما سبب له أزمة جديدة ، وأنه سيأخذه إلى غرفة العمليات ، لوضع منظم يضبط حركة القلب ، ويمنع تكرار المشكلة .
ألقيت عليه نظرة ، وهممت أن أقبل جبينه .. لكن الممرضة دفعت السرير ، باتجاه المخــــرج ، الذي يـــــــــؤدي لغرفة العمليات . سِرْتُ إلى جانب السرير ، وأنا أتأمله : كم ذا .. لُذْتُ بهذا الصــــــــدر العامر ، الذي أصبح مرتعاً للألم .. ولأجهزة تمنحه الأمل .. بــ ( حياة ) . القلب الذي كان ( الأمل ) ، و( الحياة ) لكثيرين .. يفرّون إليه من الألم ، صار ( يلوذ ) بجهاز ، يمنحه ( حياة ) ، ليمنح ( الأمل ) لآخرين ..
في المساء لم يتغير شيء . أخبرني طاقم التمريض ، أن الجهاز .. منظّم ضربات القلب ، الــــــذي تم غرسه في صدره ، يعــــــــمل بشكل جيد . وجدت عنده طبيب مقيم .. ( متدرب ) . دفعني القلق لأسأله .. فضاعفت إجاباته خوفي وقلقي :
- ضغطه منخفض ، وهذا يجعل حالته حرجة . نسعى لتنشيط القلب ، من خلال الأدوية ، ليرتفع الضغط .. لأن انخفاض الضغط ، يؤدي إلى فشل وظائف بعض أعضاء الجسم الأخرى .. مثل الكُلى ..
انتشر خبر إصابته ، فكثرت الاتصالات .. تسأل عنه . صرت أضيق ببعضها .. وأتحاشاها ، خصوصاً تلك التي تسأل عن تفاصيل الحالة . لم أعد قادراً على أن أقول ، أكثر من : حالته حرجة .. ويحتاج الدعاء .
بعض اتصالات شقيقاتي ، كانت تؤلمني .. تُوغِلْ في طلب الشرح والتفصيل ، فيتوغّل الوجع في داخلي . كنت أراه في كــــل يوم .. ( يبتعد ) أكثر ، لكني لا أستطيع أن أقول ذلك . حينما أزوره ، وأضع كفي على جبينه ، أو يده .. كنت أقاوم شعوراً موحشاً بالفقد ، بدأ يخــــــــــــترقني . كنـــــــت أخدع ( الطفل ) في داخلي ، الذي يتعلق بالمحسوس .. دليلاً على الوجود . كنت أضع عنواناً ( وهمياً ) .. لروح دخلت في التيه .. إذ يرحل ملهمها و دليلها .
الأحد 17 رمضان 1425هـ :
الصباح الثالث .. مضى الآن أكثر من 50 ساعة ، وأنا ( وحيد ) . اتصلت كالمعتاد ، في حدود الساعة العاشرة . جاء رد الممرضة روتينياً : حالته مستقرة ، لم يتغير شيء .
- هل ما زالت حالته .. تعد حرجة ..؟
- نعم ..
كيف تكون إذاً مستقرة .. تساءلت ؟ ارتبط ( الاستقرار ) في ذهني ، بوصفه مفهوماً ، وحالة ايجابية . صرت أكره أن أسمع كلمة ( مستقرة ) ، أو ( Stable ) .. كلما اتصلت ، أو سألت عنه . حالته حرجة ، وتكون مستقرة .. معادلة عجزت أن أقبلها .
في العصر ، موعد الزيارة الأول .. جئت . أسحب خطاي ، داخل وحدة العناية المركزة .. باتجاه السرير رقم ( 9 ) . المرضى على يميني ويساري .. ساكنون . لاحظت أن المريض ، لا يكون مستقلاً بسرير وحده ، ليس معه أحد ، يشاركه ( الغــــرفة ) ، إلا إذا كانت حالته .. تستدعي مراقبة لصيقة ، كما هي حاله . في وحدة العناية المركزة ، ليس ثمة غرف . هناك مساحات ، تقسّم ، وتغلق بستائر ، تقوم بدور القواطع والأبواب . لا يوحي هذا الوضع بــ ( حميمية ) من أي نوع ، مقابل الجــــــدران والأبواب الصلبة .. ( الجامدة ) . أحسها تعبيراً ، عن حالة مفادها .. أن :
كُــــــــــلّ شيء هنا .. عابر ، كل شيء مؤقت ..!
حين وصلت إلى ( المساحة ) .. حيث يوجد السرير رقم ( 9 ) ، كانت الستارة ، نصف مغلقة . ما أن دخلت ، حتى ( صفع ) ناظري ، منظر لجهاز كبير ، بلون أصفر باهت . فاجأني .. و أنا استَقْبَحْتُه . وجه الجهاز مليء بالأزرار ، والشاشات الدائرية الصغيرة . اللافت فيه .. اسطوانة بلاستيكية شفافة صغيرة ، مملوءة بسائل .. كأنه دم ، ترتبط من الجهـــتين بأنبوب بلاستيكي . واحد متصل بالجهاز ، والآخر يخرج من تحت الملابس ، التي وضعت على جسده .
شعرت بألم يعصر قلبي ، وجالت في خاطري أفكار حزينة . لم أشك لحظة ، بعد رؤيتي للجهاز ، بأن المحذور قد وقع . حاولت بأن أكذب ظني .. وبدايات نحيب ، شرعت تتعالى في أعماقي : ليل الرحيل ، هل آذن بالقدوم ..؟
سألت الممرضة :
- ما هذا ..؟!
- جهاز ( ديلزة ) ..
إذن بدأ غسيل الدم ..! هُرِعْتُ إلى رئيسة التمريض ، أسألها أن تطلب لي الطبيب . صرت أتأمل الجهاز ، وألقي نظرة .. على جسد صاحب القلب الكبير : ها هو جهاز آخر ، يضاف إلى منظومة ( نظام المساندة ) .. ليبقيك حياً .
تأخر الطبيب . كان هناك شخص يروح ويجيء ، بين مكتب التمريض ، والأجهزة المرتبطة بالجسد المسجّى . معطفه الأخضر ، أوحى لي .. بأنه قد يكون مساعداً للطبيب . سألته عن الجهاز .. فقال :
- لتنقية الدم ..
- كــــــــــــــيف ؟
- بعض أجهزة الجسم ، لا تقوم بوظائفها على النحو المطلوب . البــــكتيريا أدت إلى حدوث تسمم في الدم ، والجهاز يساعد على التخلص من السموم .
نادته الممرضة .. فذهب . تحركه السريع نحوها ، بدا وكأنه فرصة وجدها ، ليتخلص من تساؤلاتي ، أكثر من رغبته في استطلاع الأمر ، الذي تدعوه من أجله .
عدت للسرير أتأمله ، وأحدّق في الجهاز ، محاولاً فهم الأرقام والمعلومات ، التي تتبدل على شاشاته الصغيرة . الخوف عاد يقرع أبواب قلبي .. حين ألقيت نظرة على صاحب القلب الكبير ، وبدأت أحسب عدد الأجهزة ، المرتبط جسده بها .
جاء الطبيب ، اعتذر عن التأخير .. ثم بادرني :
- لعلك تسأل عن الجهاز .. ؟
- ليس الجهاز فقط يا دكتور .. كيف حاله ؟
- انخفاض الضغط يؤثر على عمل وظائف الجسم . هناك ( فشل ) في وظائف الكلى و الكبد ، لذلك تم اللجوء إلى الجهاز .. لتخليص الدم من السموم .
- فشل .. ؟!
لاحظ وقع الكلمة العنيف عليّ ، فحاول أن يضفي عليها تفسيرات تلطّفها . أسهب في الحديث ، عن أن هذا مصطلح طبي ، يراد منه ، عدم قيام العضو بوظيفته على الوجه الأكمل ، و بالتالي (عجزه) ، عن تلبية احتياجات اعضاء الجسم الأخرى .. التي تعتمد عليه . شعر كأنما وقع على اكتشاف غير مسبوق .. حينما نطق كلمة (عجز) ، و أحس أن (هذا) هو التفسير ، الذي كان يبحث عنه لـ(يرضيني) :
- عجز ..! نعم .. نعم ، هو التعبير الصحيح ، أو ما يسمى بالإنجليزية ، failuer .. بعض الترجمات ، في المجال الطبي غير دقيقة ..
عجز .. أو فشل ، لا فرق .. ! الألم الذي يعصر قلبي ، شعرت بوطأته تزداد ، و الخوف الذي يقرع أبوابه .. صار له دوي ، صرت أسمعه في أذني . تبدو الترجمة مخادعة و مخاتلة ، اكثر مما هي غير دقيقة . مثلما هي إجابته ، عندما سألته : هل يمكن أن يعود عمل الكلى و الكبد ، إلى الوضع الطبيعي .. إذا انتظم عمل القلب ، و تجاوز أزمة انخفاض الضغط :
- نحن نركز الآن على تنشيط القلب ، و مقاومة البكتيريا .. و هو الآن على (maximum support) .
إقتحمت الجملة الإنجليزية أبواب القلب ، فدخلت جحافل الخوف .. و طفقت تمزق حبال الأمل . اختصرت لي حالته ، التي كان الطبيب يحاول أن يخفيها :
” لا نستطيع أن نفعل له ، أكثر مما هو حاصل الآن .. فهو في وضع (المساندة القصوى) ..”
معتمد كليا على الأجهزة .. و بكى القلب .
أغمضت عيني ، و أشحت بوجهي عن الطبيب . تأملته .. كان صدره يعلو و يهبط ، و له صوت . الجهاز يمنحه التنفس .. و بكى القلب .
.. و خرجت أسحب خطاي . المرضى على يميني و على يساري ، لم أنتبه لأحد . موظف الأمن نبهني ، أن الباب الذي أحاول فتحه .. لأخرج ، هو باب الطواريء ، و ليس المخرج . رفعت رأسي .. هناك لوحة إرشادية ، لم أتبيّن المكتوب عليها . العينان غائمتان ، فاحتجبت الرؤية . طأطأت .. و مسحت عينيّ ، لم أشأ أن يراهما رجل الأمن . هل عيب أن نبكي ، حينما يتألم من نحب .. أو يوشكون على الرحيل .. ؟!
في المساء جئت ، لم يتغير شيء . إحدى شقيقاتي ، كانت موجودة . هالها مشهد الجهاز ، مثلما هالني . سألتني بهلع ، و هي ترى الدم (يجول) في الأسطوانة البلاستيكية ، و في الأنابيب .. ماذا يكون هذا (الشيء ) ، و ما هي وظيفته ..؟ نفس الإجابة (المتهرّبة) ، التي سمعتها من مساعد الطبيب ، و من الطبيب ، كررتها عليها . ردّت بعصبية على إجابتي ، غير المقنعة .
لم يكن لدي ، ما أرد به ، و أنا ألقي بنظري عليه ، و أحس أن برزخا هائلا ، بدأ يتشكل .. و يفصل بيننا . قلبي يناديه من الأعماق .. يصرخ ، و يمد يدا ، لكنه لا يسمعني ، و لا يستجيب .. أو هو لا يقدر . أنا أهوي في لجّة حزن ، و يضيق الأفق نحوه ، حتى يغدو مساما .. و هو يترقّى في ملكوت . تمتصني الوحشة ، و الشعور بالفقد .. إلى حضيض ، فينتفض قلبي ، و يجأر برجاء :
- اللهم اجمعنا في ملكوتك ، مع الغائب الحاضر .. (أبي عبد الرحمن) ، الذي صنع رحيله الملحمي ، الصدع الأول ، في القلب الكبير .
افتعلت موقفا ، لأتقي (نصال) أسئلة أختي .. و اتجهت لمكتب رئيسة التمريض . وقفتُ قليلا أمامه ، أطرح على الممرضة أسئلة مفتعلة .. ثم غافلتها و خرجت . أبقيت جوالي مغلقا لفترة .. حتى لا تطاردني الأسئلة . لم يعد في القلب قدرة ، لاستقبال مزيد من التساؤلات (الجارحة ) ، ففؤادي في غشاء من نصالها .
صرت أنتظر الغد ، بانتظار قلب لم يعد قادراً ، على أن ينتظرني . الغد الذي أتطلع أن (يقربني) ، من حبيب ، أراه كل يوم (يبتعد) .. لتهبط من بعده جيوش الوحشة و الظلام .
الاثنين 18 رمضان 1425 هـ :
فجر الاثنين .. يعني أنه مضى أكثر من 72 ساعة على إغماءته .. و بداية رحلة الغياب الطويل . كان الطبيب قد قال لي في اليوم الأول ، أن أي حالة صحية حرجة ، لا تستمر أكثر من 72 ساعة ، في الغالب . يتضح بعدها ، في أي اتجاه يسير الوضع الصحي للمريض . اتصلت في العاشرة .. كالمعتاد ، و جاءني الرد التقليدي :
- وضعه مستقر ، لم يتغير شي .. لكن حدثت مشكلة في الضغط ، الطبيب يستطيع أن يشرح لك .
مررتُ عليه بعد العصر ، في موعد الزيارة الأول .. بدا ساكنا . نظرتُ إلى جهاز الضغط ، كانت القراءة تتراوح بين (69-71) . أقل من أمس بدرجتين . سألتُ الممرضة .. فَتَمَعّنت في البيان الذي بين يديها ، و قالت أنه تعرض لأزمة هذا الصباح ، حيث نزل ضغطه إلى حدود الـ(60) . لم أشأ أن أطلب الطبيب .. في عينيه صرت أقرأ الحقيقة ، التي يحاول ان يخفيها عني :
والدك يحتاج إلى معجزة ..! أمس .. قالها صريحة ، لقد أصبح في وضع المساندة القصوى .. (المَاكْسِيمَمْ سَبّوُرتْ) ..
خرجت من عنده ، و بدأت أفكار الغياب و الرحيل .. تسيطر عليّ .
جئتُ الوالدة بعد المغرب .. سلمتُ عليها ، و سألتني عنه . أخبرتها أن حالته لم تتغير ، ثم رويتُ حوارا (اختلقته) ، بيني و بين الطبيب . قلتُ لها أن الطبيب يقول : عليـــــكم أن تؤمنوا أن العلاج ، ليس إلا سبباً .. لا يصنع شيئا ، أمام أمر قد قضاه الله . كنتُ أريد تهيئتها ، لأمر أراه .. و لا أستطيع أن أبوح به .
كانت متعبة جدا .. خلال اليومين السابقين . آلام الروماتيزم تعذبها ، و تضغط على عظامها ، التي أعياها السكر .. فوق عذابات السنين ، التي فتّت فؤادها الغض . فاجأتني أنها تصر على أن تراه الليلة ، رغم إلحاحي عليها بالراحة ، حتى لا تحصل لها مضاعفات .
في المساء .. كنتُ عنده ، أنا و الوالدة ، و بعض الأخوات . نَظَرتْ إليه .. لكنها لم تقف عنده كثيرا ، و قالت بصوت ممتليء تعباً ، أنّها ترغب بالمغادرة . في الطريق إلى السيارة ، كانت صامتة ، و حينما ركبت .. علا نشيجها ، و هي تردد :
- بعدك علوم يا أبو محمد .. الله يلطف بك و بنا ..!
هل استشعرت الرحيل القادم ، و جاءت تلقي النظرة الأخيرة ..؟ لم أر امرأة تحب رجلا ، مثل حب أمي لأبي .. دون أن تصوغ في ذلك قصيدة . كنت أقرأ في عينيها ، و هي تنظر إليه .. أجمل القصائد . قاسمته الحياة بأفراحها و أتراحها .. و حين تعاقب عليهما البلاء ، في السنوات العشر الأخيرة ، كنت أعجب منهما كِلَيهِما : صبرهُ الجبار ، و رضاها بالقدر . كلما اشتد عليه البلاء .. زاد تماسكا ، و كلما اشتد عليها البلاء .. زادت شفافية ، حتى أكاد أجزم ، أني ارى بعينيّ.. قلبها موصولاً بالسماء .
الثلاثاء 19 رمضان 1425 هـ :
عصر يوم الاثنين ، كان قد هاتفني أحد الأصدقاء ، و دعاني إلى لقاء في منزل أحــد الأعيان ، على شرف شخصية ثقافية من دولة عربية . لم أكن مستعدا نفسيا ، للقاء مثل هذا .. و اعتذرت . والدي يملأ قلبي و خاطري .. فكيف أستطيع الحضور ، و المشاركة ..؟ أصرّ عليّ .. بحجة أن حضوري مهم ، و أن صاحب المنزل ، حريص على حضوري .
أوصلتُ والدتي للبيت ، بعد خروجنا من المستشفى ذاك المساء ، و توجهت إلى منزل صاحب الدعوة . كانت الساعة تقترب من منتصف الليل .
في منزل المضيف ، انهمكنا في نقاش ، حول هموم (وطنية) ,, و قضايا (الإصلاح) ، التي أصبحت مطلبا على مختلف الصعد . يتفق الجميع على أهمية ، ووجوب الشروع بتنفيذها .. و تختلف الرؤى .
كنتُ أتحدث ، و قلبي هناك .. في المستشفى ، مع رجل .. أنا مدينٌ له بكل شيء .. من شكل (الإنسان) ، إلى معنى (الرجل) ..!
رجلٌ ملأني كرامة و عزة .. و امتلأت بوجوده إلى جانبي ، ثقةً و أملاً ..
في الساعة الواحدة و عشر دقائق ، من صباح الثلاثاء .. دقّ جوالي . تناولته من جيبي ، و صرتُ أتأمل رقم المتصل .. لم أعرفه . وضعتُ نظارة القراءة على عيني ، و تأكدتُ أن الرقم غريب .. ثابت ، و ليس جوالاً . حين أجبت .. جاءني الصوت :
- فلان ..؟
- نعم ..
- معك مركز الأمير سلطان لجراحة القلب .. والدك يمر بوضع حرج ، و نريدك أن تأتي الآن .
تسارعت دقات قلبي ، حين عرّف بنفسه ، و شعرت باضطراب ، لاحظه الحاضرون . طَلَبهُ مني الحضور ، شلّ قدرتي على النهوض للحظات ، و أحسستُ كأن قلبي سقط من مكانه ، فوضعت يدي أسفل صدري .
قطعتُ حديثا ، كان يجري ، و طلبتُ الإذن من مضيفي .. بالإنصراف :
- هناك اتصال من المستشفى .. يجب أن أذهب .
قدتُ سيارتي باتجاه المستشفى . عشرات الأسئلة .. جالت بخاطري . استبعدتُ فكرة (الموت) .. تماما . العاملون في المستشفيات ، تبلدت أحاسيسهم تجاه الموت ، من حيث هو (حدث) يصدم أصحاب العلاقة . تعاملهم مع حالات موت يومية ، جعلتهم يظنون – دون سوء قصد – أن الناس مثلهم ، يواجهون ( الموت ) كل يوم .. فلم يعودوا يبالون ..! العاملون في المستشفى .. افترضت كذلك ، ليسوا بهذه الرقة و الحساسية ، تجاه الموت ، كحدث غير عادي ( لنا ) .. بحيث لم يرغبوا أن يسببوا لي (صدمة) .. ففضلوا إبلاغي ، بشكل تدريجي .
إذن لماذا طلبوا حضوري ..؟
حين وصلت .. استغرب رجل الأمن مجيئي ، في وقت متأخر .. مثل هذا .
أخبرتُه أن لدي مريض ، و أن المستشفى اتصلوا بي ، و طلبوا حضوري . سمح لي .. فأخذت المصعد إلى الدور الثالث .
خرجتُ من المصعد ، كان باب وحدة العناية المركزة لحظتها .. مفتوحا ، حيث صادف خروج أحد العاملين .
دخلت و توجهت إلى السرير رقم (9) . كان الطبيب هناك ، و بعض المساعدين .. و الممرضات . كانوا منهمكين في نشاط غير عادي . لا ينفك الطبيب عن إصدار أوامر ، و طلبات ، للذين معه . التفت إليّ .. و قال :
- ضغط الوالد يتراجع بسرعة ، منذ أكثر من ساعة .. فشلنا في إيقافه . نحن نبذل محاولات أخيرة .
نظر إليّ ، و قرأتُ (الموت) في عينيه . رفعت عينيّ للجهاز .. كان الضغط دون الـ (50) .. و ينزل : 48 .. 47 .. 46 . نظرتُ إلى والدي .. كان ينازع . لم أستطع متابعة المشهد .. فخرجتُ . في غرفة استراحة مجاورة ، رميت بجسدي على المقعد الأول .. كلماته : نبذل محاولات أخيرة ، شعرت بها ، مثل الأشفار .. تنغرس في وجداني المكلوم .
الساعة التي في يدي ، تشير إلى الواحدة و خمس و ثلاثين دقيقة صباحا .
في قلبي .. كان الزمن يؤذن بنهاية ..!
كنت غارقا في لحظات ذهول .. أتذكر نظرات الطبيب ، و أتخيل نفسي بلا (أب) .. بلا رجل ظل يلهمني ، إلى آخر لحظات وعيه . شعرت أني انفصلت عن الدنيا .. ثم استيقظت على صوت إحدى الممرضات .. تصرخ :
- المؤشر ينحدر بسرعة ..
سادت دقيقة صمت ، وجدت الطبيب بعدها ، يقف عندي ، يحمل في عينيه بقية من نظراته الأولى .. و يقول :
- توقف قلبه .. عظم الله أجركم، وجبر مصيبتكم . هذه أيام فضيلة .. اُدعوا له .
إذن كانت رحلة القلب الأخيرة . كان يحاول فيها .. أن يصعد ، ليحافظ على (قلوب) وراءه .. كثيرة ، من الانهيار . عجزت أن أرفع يدي ، لأرى الوقت .. الساعة المعلقة على الحائط ، كانت تشير إلى الواحدة و سبع و أربعين دقيقة . لاحظت ذلك ، قبل أن تمتليء عينيّ ، فلم أعد أرى شيئا .. حولي ، حتى الطبيب الواقف أمامي .
انصرف .. و أصدر تعليمات لبعض من كان معه ، لم أدرك منها شيئا . كنت غارقا في حالة ذهول . نهضت .. و ذهبت باتجاه السرير رقم (9) . إحدى الممرضات كانت مشغولة بنزع الأجهزة من جسد ، كان قبل قليل فيه حركة . كل شيء صمت :
الأجهزة ، و الجسد .. و الروح التي كانت تحوم في المكان .
طلبت من الممرضة أن تؤجل عملها ، و تتركنا وحدنا . سحبت الستارة ، و أغلقتها علينا .. أنا و هو . نظرت إلى عينين نصف مفتوحين ، و وجه ساكن . لا يرف .. لكنه لم يكن جامدا . وضعت كفي على جبينه ، و أمسكت بكفه .. كان دافئا . مثل قلب كنت ألوذ به ، كلما اشتد الصقيع .. و هبت رياح التوحش . أخذت أنظر إليه ، من أكثر من زاوية .. رأيت (قلباً) كبيرا ، تموت بموته أرواح .. و تغيب قيم ، و أخلاق فرسان ، و وجدتني أقف برهبة .. و بجلال ، ثم أقبل جبينه :
- طبت حيا و ميتا يا أبي .. طبت حيا و ميتا ..
استحيت أن أعطيه ظهري ، فمشيت إلى الوراء .. و غادرت ..
الساعة الآن .. الثانية و عشر دقائق صباحاً .
خرجت إلى الشارع .. الظلام يحيطني من كل جانب . لم يفلح الضوء .. المتدفق من أعمدة الإنارة ، و لا من انوار السيارات ، في مدينة لا ينام أكثر أهلها ، في ليالي رمضان .. في أن يضيء قلبي ، الذي انطفأ .. برحيله . أرسلت رسالة جوال ، إلى أربعة أرقام : ” أنعي لكم حبيبي .. لقد رحل إلى الرفيق الأعلى ، ما أطول الليل بعده ..! ” .
عدت أفكر بأمي ، و برجل سيروّعه رحيله . كنت ما أزال أؤمن ، بأننا يجب ان نفصل بين المهني و الأخلاقي . كيف سيكون حال (إبراهيم) ، إذا جاءه النعي .. لم يصلّ عليه ، و لم يدفنه .. و لم يتلق فيه كلمة عزاء .. ؟ فوق قهر السجن .. فقد حبيب ، و عذاب .
كنت مؤمنا أنه سيستجيب ، و انه أكثر من سيقدر (نظريتي) ، في الفصل بين الأخلاقي والمهني . صورة إبراهيم تلح علي .. ثاوياً في زنزانته ، يبلغه الخبر بطريقة آليّة ، فيغيض الدم في وجهه ، و تذوي روحه . سحبت جوّالي من جيبي .. و اتصلت ، فرد عليّ موظف (السنترال) :
- السلام عليكم .. أقدر أكلم الأمير محمد بن نايف ، لو سمحت .. ؟
- من الذي معي .. طال عمرك ؟
ذكرت له اسمي ، و أكدت له أن الأمر عاجل و ضروري . غاب عني لحظات ، ثم عاد ليقول ، أن الأمير مشغول . اتصلت بمدير المكتب ، الذي عرف صوتي . أخبرته بخبر الوالد ، و رغبتي بأن استأذن الأمير ، بخروج إبراهيم من السجن ، ليصلي على الوالد ، و يشارك في دفنه ، ويتـــــــقبل فيه العزاء . وعــد أن يبلغ طلبي للأمير .. و يــرد علي . بعد 5 دقائق ، حطم رنين الجوال ، جمود الصمت ، الذي خيم على روحي :
- ألو .. نعم ..
- فلان .. ؟
- نعم ..
- كلم .. لو سمحت ، سمو الأمير محمد بن نايف .
عزّاني بأبي . قلت له ، إن المصاب على قلبي جلل .. أحتاج إبراهيم ، ليكون معي ، في هذه اللحظات . لم أحتج لكلام كثير لأقنعه . فوجئت به يقول :
- لن تكون هناك أوراق ، هو بضمانك .. كلمتك تكفي .
وصلت البيت .. و انتظرت صلاة الفجر . بعد الصلاة جئتها .. كانت في مُصلاها . خائف عليها ، لا أدري ما أقول . ذكرت لها أني مررت عليه البارحة .. حيث تعب كثيرا ، فاتصل بي المستشفى .. ثم أضفت :
- وضعه صعب يا أمي .. صعب جدا ، و حالته خطرة .
لم ترد .. بل أغمضت عينيها .. و همست :
- له الأمر من قبل و من بعد ..
جعلتها تقرأ الحقيقة في وجهي ، وعينيّ .. قبل أن أقول لها :
- أمي .. أبي يطلبك الحِل ّ .. عظم الله أجرك فيه .. رحل إلى الكريم الرحيم .. البارحة .
أطلقت آهة ، و فتحت عينيها على إتساعهما ، و هي تردّد : ” إنّا لله ، و إنّا إليه راجعون .. لعلك للجنّة يا ابو محمد .. لعلك للجنّة .. ” .
ضممتها إلى صدري .. و حين سكنت ، أخبرتها أني أخذتُ إذناً لابراهيم ، ليخرج ويصلي عليه .. فأشرقت من بين معالم الحزن ، في وجهها .. علامات فرح . حين عدت للبيت ، استقبلتني زوجتي ، و أخبرتني أن ( المباحث ) على الهاتف :
- نعم ..
- جاءنا توجيه من الأمير محمد ، بخصوص شقيقك ابراهيم .. متى ستأتي لاستلامه ..؟
- الآن ..!
- الوقت المسموح بخروجه ، 12 ساعة فقط .
- إذن .. آتيكم قبل الظهر .. لأننا سنصلي على الوالد ، رحمه الله ، بعد صلاة العصر .
قبيل الظهر كنت في (عليشة) . أحضروا ابراهيم ، و لم يكن يعلم عن شيء . أخبرته .. غشيته موجة من الحزن ، و انخرط بنوبة بكاء ، وقّعت على أوراق ، ووعدٍ ، بأن التزم بما فيها .. وخرجنا .
توجهنا إلى المستشفى . حررنا شهادة (الوفاة) .. غَسّلناه ، وَكَفّنّاه . بروحي .. ذلك الجسد الطاهر ، يتقلب بين أيدينا .. و يصدق فيه قول الشاعر :
” … و قد كنتُ قبل اليوم .. صعبا قياديا ” .
بيننا .. و بين صلاة العصر ، و قت قصير . أمي و الأخوات ، أصْرَرْنَ على (رؤية وداع) .. فاتجهنا إلى البيت . رأته أمي ، و رأت ابراهيم . إمرأة توزع قلبها ، بين وداع (حبيب) .. و رؤية (حبيب) ..!
لك الله .. من قلب ، كُتِب عليه العناء ..!
صلينا عليه .. و وقفت على القبر ، يهيلون عليه التراب ، و أعد ذراته .
كأنّ غيبة الروح .. التي غادرت للأبد ، لا تكفي لتفصل بيننا ..؟ كأنّ الحِمْل و المسؤولية ، التي تركها ، رجلٌ (كبير) مثله .. ليحملها رجلٌ (صغير) مثلي ، لا يكفي ، لأعرف جسامة البرزخ الذي يفصلنا ..؟
في الساعة الثانية عشرة .. منتصف الليل ، كنت في طريقي لـ (عليشة) .. ابراهيم إلى جانبي .. و الحزن معنا ، و أم جريحة .. تركناها وراءنا .
الأربعاء 20 رمضان 1425 هـ :
الساعة الواحدة صباحا ، كنتُ في طريق الملك فهد .. عائداً ، متّجهاً شمالا .
المستقبل المجهول ، بأضعاف امتداد الطريق ، و بأضعاف سِعَته .. (وَحـِـيدٌ) ، بلا رجال :
رجل أَوْدعتُه الثّرى.. و رجلٌ نزل ، يمشي على قدميه، إلى زنزانته .. وتركني.vpgJJJJJm hgrgf hgHodvm>>
vpgJJJJJm hgrgf hgHodvm>> vpgJJJJJm hgrgf hgHodvm>>