أربعة معاول لهدم جسور الحوار
عمرو عبد الكريم سعداوي
عندما تسود العلاقات الصراعية مع المختلفين فكريًّا ومذهبيًّا، ينزع كل طرف إلى التخندق وعدم معرفة الآخر ومصادره الفكرية ومنهج بناء الرؤى عنده؛ مما يؤدي بالحوار إلى عمليات ديماجوجية أقرب إلى السجالات الانطباعية منها إلى الحوار الجدي والعميق. فكل طرف يختزل الآخر إلى مجموعة أو حزمة من المقولات العامة السطحية –البالغة العمومية-، ويصبح بعد ذلك هذا الطرف أسيرًا لتلك المقولات في معرفة الآخر، بل وفي نزاعه معه.
ومن خلال آلية التعميم والتجزئة وانتشارها وإعادة إنتاجها، يرى كل طرف الآخر عبر تلك الصور النمطية، ومن ثم يصبح المجال الفكري أقرب إلى الاجترار منه إلى التكرار؛ مما يكرس منهج الحلقات المغلقة في تكرار الحُجَّة ونقيضها، وتصور مقولات الطرف الآخر، فغالبًا ما يقوم كل فريق بالرد على ما يتصوره حججًا للطرف الآخر، وغالبًا ما ينزع كل فريق أضعف حجج المخالفين ويجردها عن سياقها الفكري، وينزعها من مسارها، ثم يقوم بتقويضها ونقدها، ثم تُقدَّم على أنها هدم لحجج المخالفين من الأساس.
أما العوامل التي تحول دون تواصل الناس ومد جسور الحوار بينهم فهي:
1- التعصب للآراء والمذاهب والأفكار والأشخاص: والتعصب ظاهرة قديمة، موجودة في مختلف المجتمعات البشرية، وفي مختلف مستوياتها، وهي ظاهرة تمثل انحرافًا مرضيًّا، حينما لا تكون ذات مضمون أخلاقي، كالانتصار للحق أو لدعاته. والتعصب ينشأ عن اعتقاد باطل بأن المرء يحتكر الحق لنفسه. والمتعصب لا يفكر فيما يتعصب له، بل يقبله كما هو فحسب، لذا فلا يمكن لمتعصب أن يتواصل إلا مع من يردد نفس مقولاته.
2- المراء المذموم واللجاجة في الجدل، ومحاولة الانتصار للنفس ولو على ذبح الحقيقة: والجدل خلق مذموم، ينبغي للإنسان أن يتنزه عنه، وإذا اضطر إليه فيجب أن يكون بالتي هي أحسن (وجادلهم بالتي هي أحسن) [النحل: 125] ومعنى ذلك أن يتجنب الإنسان الجدال العقيم والفاحش والبذيء، وإذا أراد أن يجادل فلا بد أن يجادل بالحسنى، وإذا وجد أن النقاش يقود إلى طريق مسدود، فينبغي أن يتوقف عنه لأنه يصير عند ذلك عبثًا لا خير فيه، فكما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا" [رواه أبو داود بسند حسن]، "فما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" [رواه الترمذي وصححه]. وترك الجدل يتبعه أمران:
أولهما: أن نعترف بأخطائنا إن كنا مخطئين، والاعتراف بالخطأ فضيلة.
ثانيهما: أن نحترم آراء الآخرين.
3- التسرع في إصدار الأحكام: إذ إن التسرع في إصدار الأحكام دون روية، مع عدم وضوح الرؤية، يوقع في أغاليط وأخطاء. ويدفع إلى التسرع عدة عوامل منها:
• الغرور بالنفس، والاعتداد بسرعة البديهة.
• الكسل الذهني وعدم الرغبة في إجهاد الفكر للتعرف على الحق.
• الانفعال النفسي، كالغضب والخوف والطمع وطيش الهوى.
• الحاجة الملحة ومدافعة الضرورة الطبيعية.
ولقد انتقد القرآن بشدة لاذعة الذين يقفزون عند السماع الأولي للمشكلة إلى إصدار الأحكام وإشاعتها، دون السماح لها بالمرور بمنطقة السماح الداخلي، والتفاعل مع القدرات العقلية، وتبادل التحليل والاستنتاج. ويصف القرآن هذا الأسلوب المتسرع بأنه تلقٍّ للمعلومات الأولية باللسان، دون الصبر عليها حتى تمر بالأذن، وتصل إلى منطقة الوعي، (إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور: 15]، ويتهدد القرآن الفاعلين لذلك بالعقوبة الإلهية، لما يترتب على هذا الأسلوب في الحكم من أخطاء، (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [النور: 17].
4- التفكير السطحي: الذي لا يغوص في أعماق المشكلات، ولا يدرك أثر العلاقات ببعضها، ولا يستوعب تأثير المتغيرات، بل يتوقف عند الأسباب الظاهرة للمشكلة، التي غالبًا ما تكون أعراضًا للمشكلات وليست جواهرها.
والتفكير السطحي هو الذي يغيب العقل، ويهمل العلم، ويغفل العمل، ويجافي سنن الله في الآفاق والأنفس. ومن سماته أيضًا: إرجاع المشكلات والظواهر إلى عامل واحد، مع إغفال أن تعقيد المشكلات لا يستوعبه سبب واحد، كما أن إرجاع المشكلات إلى سبب واحد يصاحبه قدر من التبسيط يتنافى مع عمق التجارب الإنسانية
منقول
شيم