( 83 ) مدار الأفكار
صندوق فاروق
يقول الشاعر العربي :
لقد أسمعت لو ناديت حيا= ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نار نفخت بها أضاءت= ولكن أنت تنفخ في رماد
في إحدى جزر بلاد «الواق واق» عاش فاروق، وهو رجل يجيد العزف على أوتار دغدغة مشاعر
الناس، ويتقن فن التلون وتغيير المواقف وفقا لمستجدات المصالح، وتبدل الأهواء والأجواء، وفي
غفلة من الزمن والمجتمع، واستغلالا لمواهبه المتعددة وقدراته غير المحدودة، وصل إلى كرسي
الولاية في الجزيرة التي يعيش فيها، وعندما تمكن من ناصية الأمر تغير وتنكر للمثل والمبادئ التي
كان ينادي بها ويدعو إلى الحفاظ عليها، ونسي أو تناسى قول الإمام علي بن أبي طالب ـ رضي الله
عنه ـ الذي كان يردده كثيرا قبل أن يصبح واليا: «إن أعظم ما افترض الله سبحانه من الحقوق،
حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله لكل على كل، فجعلها نظاما
لألفتهم وعزا لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرعية،
فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين
واعتدلت معالم العدل...»، ومع إقبال الدنيا على فاروق تضخمت لديه «الأنا»، ذلك الصوت العالي
المستبد الموجود في داخله، حتى ظن أنه الحفيظ الأمين لأمن الجزيرة وأمانها، ولأن «الأنا»
المتضخمة وراء كل كبر وغرور وشح نفس وأنانية فهي كفيلةٌ بأن تكون محورا يلتف حوله كل شر
إنساني فهي ضد روح الإسلام قلبا وقالبا، قال الله تعالى: «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»، (الحشر: 9)، وقال النبي صلى الله عليه
وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه
حسنا ونعله حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس»، وما أقبح خلق
الكبر وبطر الحق وغمط الناس الذي اتبعه فاروق في الولاية فانقلبت في عهده الموازين فأصبح
الظلم معهودا، والعدل مفقودا، والكبرياء دستورا، والتسامح جورا، وينطبق على فترة ولايته قول
المصطفى صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس زمان سنوات خداعات: يصدق فيها الكاذب
ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل يا رسول
الله وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه ينطق في أمر العامة»، غير أن تلك التجاوزات والمخالفات
التي ارتكبها الوالي فاروق قد طرقت مسامع ملك الواق واق العادل فبادر بأول رسائل التوجيه
والتنبيه والتحذير له، وفي محاولة من الوالي لتخفيف غضب أهالي الجزيرة قام بعد استشارة
مجلس الأعيان والمتنفذين والمقربين منه، بوضع صندوق للشكاوى في مكان بارز ومعروف
وأشيع في الجزيرة وفق حملات إعلانية مكثفة بأن شكاوى المواطنين التي تقدم من خلال الصندوق
لن تجد من يحجبها عن الوالي وستجد من يصغي إليها وينظر في مضمونها بكل دقة وشفافية
وبمتابعة الوالي نفسه حتى تحقق التجربة ثمارها ومبتغاها، وتبعا لذلك انهمرت عرائض الشكاوى
والاحتجاج والطلبات التي لم تجد من يلتفت إليها، وعندما أحيل الوالي فاروق إلى التقاعد وعند
تسليم عهدة ومتطلبات منصب الولاية إلى الوالي الجديد، الذي كان أول طلب له من سلفه وأثناء
مراسم التسليم أن يسلمه مفتاح الصندوق لإيمانه بأهمية التجربة وعظيم جدواها، فهمس الوالي
المتقاعد في أذن الوالي البديل بأن الصندوق كان شكليا وليس له مفتاح وجاء فقط لكسب رضاء
الملك و امتصاص غضب الأهالي، لقد تذكرت هذه الواقعة عندما وجدت بأن بعض الوزارات
والمؤسسات والإدارات تتكلف ميزانية لوضع صندوق للشكاوى والاقتراحات عند المدخل الرئيسي
لكل منها وتضع كذلك لوحة تفيد بأن مفتاح الصندوق لدى سعادة المدير العام أو معالي الوزير
شخصيا، ما يوحي بأهمية الصندوق والحرص عليه، وكما يقول سعدي غزالة: «تعددت وسائل نقل
شكاوى المواطنين وتطلعاتهم إلى الجهات المعنية ومسؤولي الدوائر الحكومية والوزارات،
فتنوعت في أشكالها وسرعة إيصالها، وأقدمها صندوق الشكاوى، فأنت عندما تدخل دائرة لأجل
انجاز معاملتك، تجد ذلك الصندوق مازال يلتصق على الواجهات بانتظار من يلقي فيه رسالة
تتعرض لسير عمل المؤسسة ومقترحات تنشيط عملها خدمة للناس، لكنه بكل الأحوال
ظل يحمل حسنتين حتى إن لم يؤد عمله بشكل كامل: أولاهما تؤكد استمرار وجود المعوقات في
إنجاز المعاملات، وثانيتهما أنه يعطي الانطباع بأنك تستطيع أن تشكو وتعترض! ويقول الدكتور
عادل محسن: «إن آلية صندوق الشكاوى بطيئة حيث تجمع الشكاوى ثم تدرس ثم تبت»، وإذا
أمعنت النظر تجد أن هذه الصناديق يعلوها الغبار، ما أفقدها فاعليتها ومصداقيتها حتى هجرها
الشاكي إلى نوافذ أخرى.
وش عاد لو دونت شكواك بأوراق= دام المصير يصير صندوق فاروق
لا ترتجي للحـل مـن كـف درّاق = وبين الورى ما يختفي منهج البوق
عبدالعزيز الفدغوش