غدا الاثنين امتحان الدكتور اندرسون لمناهج البحث ، أشعر أني مستعد له جيدا ، فقط احتاج أن أنام
مبكرا ، لاستيقظ نشيطا .. سأصلي وتري أول الليل وأنام .
الاثنين يوم مبارك ، قررت أن أصومه ، فالجو بارد ، وعملا بالسنة ، وتحسبا لمفاجآت لا أعلمها . والصوم كما
قال صلى الله عليه وسلم (وجاء) ، وأنا لا احتاج الوجاء و (الحماية ) ، كما أحتاجها في هذه الأيام ، وفي
امتحان الدكتور اندرسون بالذات .
بقى على الامتحان نصف ساعة ، حينما عزمت على التوجه للجامعة . لم أتوقع أن يكون الثلج بهذه
الكثافة ، لحظة ألقيت نظرة من النافذة ، و الثلج يتساقط ، و ارتأيت أن أصلى الفجر في شقتي . بدأت
أزيح الثلج عن طريق السيارة ، وحينما انتهيت ، و ظننت أن الطريق سالكه ، اكتشفت أن إحدى العجلات
معطوبة . ليس اتساخ الأيدي ، و الملابس ، وبرودة الجو ، هو المزعج فقط ، في مثل هذه المواقف ..
لكن أن يكون بانتظارك ، بعد كل هذا امتحان . ما أن بدلت الإطار المعطوب بآخر صالح ، وحاولت تشغيل
السيارة ، حتى باءت محاولاتي بالفشل ، ثم أكتشف في الأخير ، و يا للسخرية .. أن السيارة فارغة من
الوقود .
وصلت قاعة الامتحان متأخرا عشرين دقيقة ، استقبلني الدكتور أندرسون بابتسامة عريضة ، وهو يشير
لي بأن آخذ مقعدا . اندفعت إلى داخل القاعة ابحث لي عن مكان ، ولم انتبه إلى أحد الطلبة ، الذي قد
مد رجليه أمامه ، فعثرت ووقعت على وجهي وتناثرت أشيائي . حينما استقريت في مكاني أخيرا ، رأيت
الدكتور اندرسون ما زال مبتسما . قلت معتذرا :
ـ هذا اليوم ليس لي يا دكتور اندرسون .
رد مازحا :
ـ لابد أنك كنت تجرف الثلج ، أو أن إطار سيارتك قد تنسم هواؤه …
وهذه هي الأعذار التي يسوقها الطلاب عادة ، حينما يتأخرون .
قلت :
ـ إنك لن تصدقني يا دكتور اندرسون ..
ـ ماذا .. ؟
ـ بالإضافة إلى ما ذكرت ، فقد اكتشفت أن سيارتي قد نفد وقودها ..
أطلق ضحكة مدوية ، وقال :
ـ لن يغلبك أحد يا مصعب .. ويأتي بمثل ما جئت به
شرعت بالإجابة على الامتحان ، لكن القلم لا يكتب . يخط حرفا أو اثنين ، ثم يمتنع . عالجته بشتى الطرق
دون فائدة . استنتجت أني حينما تعثرت برجلي الطالب ، و وقعت ، والقلم في يدي ، ضربت ريشته الأرض
فانثلمت .
لاحظ الدكتور اندرسون حيرتي فجاء مستفهما . فأخبرته بمشكلة القلم ، وسألته أن يعيرني قلمه ، فذكر
لي أنه اعارة لطالب آخر .. نسي قلمه .
قلت للدكتور اندرسون :
ـ ألم أقل لك أن هذا اليوم ليس لي ..
ابتسم ، وقال :
ـ لا عليك سنحل المشكلة ..
سأل الطلاب إن كان هناك أحد معه قلم آخر ، يمكن أن يعيره لشخص ، يبدو أنه نثر الملح من فوق طاولة
الطعام . وهو اعتقاد شعبي بين الأمريكيين ، تقوم فكرته على أن من يكب الملح ، يلازمه النحس طيلة
يومه .
لم يرد أحد من الطلبة ، رغم تكرار السؤال ، إذ قليل من الطلاب من يحمل معه أكثر من قلم . كان الدكتور
اندرسون على وشك أن يطلب مني أن أغادر القاعة ، لأبحث لي عن قلم ، حين ارتفعت يد أحد الطلاب
في أول القاعة . قالت الطالبة :
ـ عندي حل بدائي ، لكنه ينفع في مثل الظروف ..
ثم قامت بكسر قلمها المرسم إلى نصفين ، وبرت أحدهما ، و أعطته للدكتور اندرسون ، الذي أعطاني
إياه بدوره ، وقال مازحا :
ـ لا أعتقد أن أحدا تشاركه الآنسة ديمي بمرسمها ، يمكن أن يقول هذا اليوم ليس لي ..! إنها ديمي إذن ،
يدفعها القدر من جديد في طريقي ، ماذا يخبئ لي هذا اليوم من مفاجآت ..؟ تطاولت ، وبهزة من رأسي ،
وابتسامة خفيفة ، شكرت ديمي .
كان متوقعا أن ينتهي الوقت ، قبل أن انتهى من الإجابة على جميع الأسئلة . لم يبق إلا أنا والدكتور
اندرسون ، الذي قال :
ـ أنا مضطر أن أغادر ، عندما تنتهي أعط ورقة الإجابة لسكرتيره القسم ..
لاحظ أني محرج ، فقال :
ـ لا داعي للحرج .. فأنا أثق بك .
هذا التعامل ينعدم في بلادنا مع الأسف ، حيث الأمانة صارت نادرة ، وقيم الثقة ، أحيانا غير موجودة .
دائما أسال نفسي ما الذي يبقى هذا الوحش الأمريكي الجبار ، رغم مظاهر الظلم والفساد الكثيرة
المنتشرة فيه …؟ إنه قطعا ، ليس القوة المادية المجردة وحدها . فالله سبحانه قد قص علينا أحوال أقوام
اشد قوة ، أهلكهم ، (فهل ترى لهم من باقية) ..؟ . إن مثل هذه القيم ، وأخرى يطول الحديث عنها ، هي
التي مازالت تحافظ على الإمبراطورية الأمريكية من الانهيار .. حتى يأتي أمر الله .
لماذا عدمت مثل هذه السلوكيات الجميلة في مجتمعات المسلمين ..؟ ألا يكفيها التخلف المادي الذي
يطبق عليها ..؟ لماذا لم يبق مسموعا سوى صوت النفاق .. وصار الإسلام ، الذي هو مصدر هذه الفضائل
جميعها ، مطية يركبها كل أفاك ، ليحقق من خلالها أهدافه ..؟ كل همه أن يملأ جيبه ، ويشبع بطنه و .. و
أشياء أخرى . صار الإسلام .. شعارا فقط . يردده السياسي ، ويلوكه شيوخ السوء ، وتشدو به جوقة
النفاق .
ماجت هذه الخواطر في بالي للحظة ، وأنا أرقب الدكتور أندرسون يغادر القاعة ويتركني لوحدي .
أكملت الإجابة على الامتحان ، ولملمت أوراقي ، وتوجهت خارجا ، لأجدها قبالتي ، عند الباب :
ـ ديمي .. ماذا تفعلين هنا ..؟
ـ كنت انتظرك لقد ..
قاطعتها :
ـ تريدين القلم ..؟
ـ هل أنت جاد … لا تكن سخيفا لقد قلقت عليك ، ماذا صنعت في الامتحان ..؟
ـ أظن الأمور على ما يرام ،
ـ ماذا ستفعل الآن ..؟
ـ سأعطى أوراق الامتحان للسكرتيرة ..
ـ و بعد ذلك ..؟
ـ سأذهب إلى البيت لاستريح ، ثم أذاكر لامتحان أخر لدى بعد غد ..
ـ هل لديك بعض الدقائق لنتحدث عن أشياء سبق وسألتك عنها ..؟
ـ لا .. لا أظن أني أستطيع ألان ..
تبادلنا النظرات ، ورأيت في عينيها رجاء ..
ـ آمل أن تتفهمي وضعي ..؟
لم ترد علي .. واستمرت تنظر إلى ، وفي يدها إصبع شوكولاته ، فمدته لي ، فقلت :
ـ شكرا لا أستطيع أن أكله ..
ـ لانه مني ..؟
ـ لا .. ولكنني صائم اليوم … عفوا لابد أن أذهب الآن ..
وانصرفت .. و حينما سرت بضع خطوات نادتني قائلة :
ـ مصعب .. هل أستطيع أن أسألك سؤالا ..؟
التفت ، وكانت واقفة في مكانها .. تقلب إصبع الشوكولاته في يدها ، بشيء من القلق ..
قلت :
ـ ماذا ..؟
ـ هل حقا يهمك أمري .. أقصد هل يهمك أن أعرف الحقيقة عن الإسلام .. أو جزء من الحقيقة ..؟
فاجأني السؤال ، وشعرت بقلبي ينقبض من الألم . هل أنا أسأت التقدير في تعاملي معها ، وتوهمت
أشياء لم تكن موجودة إلا في خيالي ..؟
لم يكن لدي وقت لأناقشها ، تقدمت نحوها ، وقلت :
ـ اليوم الاثنين ، وبعد غد الأربعاء لدي امتحان في المساء .. يوم الخميس سأكون حرا من أي ارتباط .
-حسنا .. نلتقي الخميس ، في نفس الوقت ، ونفس المكان …
أي مكان ، وأي وقت تقصدين ..؟
ـ الساعة السابعة مساء .. في (الكيف دوماسيه) ..
ـ لا بأس ..
ثم سحبت إصبع الشوكولاته من يدها ، وأضفت :
ـ سآخذ هذا وآكله .. حينما أفطر بعد مغيب الشمس ..
ما كدت أنهي كلامي ، حتى اكتسحت وجهها موجه من السعادة ، وانشق ثغرها عن ابتسامة رضا ،
تدفقت من بين ثناياها ، مثل جدول ماء صغير ينساب من بين حصيات مرمر…
و لم تعلق بشيء ..
ـ مع السلامة ..
قلت لها .. ثم استدرت منصرفا ..
بعد أن صليت فجر يوم الخميس ، نمت إلى حدود الساعة العاشرة . منذ اشهر لم أنم إلى هذا الوقت ،
بسبب ضغط الدراسة . قررت ايضا أن اطبخ لي فطورا ، وهو ما لم افعله طول الفترة الماضية ، إذ اكتفى
بالمربيات ، و الأجبان ، والبيض المسلوق .
سأصنع فطورا له مذاق خاص ، (بيض شكشوكة) . هذا أول شيء تعلمته شقيقتي حصة ، وعلمتني إياه
، حينما عزمت على السفر للدراسة .
حصة تصغرني بعامين ، وقبل سنتين وبينما كنت في زيارة الأهل ، أشفقت على والدتي ، لما علمت أن
كل أكلي تقريبا من المطاعم ، لأني لا أجد الوقت الكافي للطبخ . حصة اقترحت حلا للمشكلة ، أن
أتزوج . ومضت خطوة إلى الأمام في هذا المشروع ، حينما تكفلت باختيار الفتاة المناسبة .
انشغلت بترتيب بيتي عامة النهار . لقد انقلب البيت رأسا على عقب ، بسبب حالة الطوارئ التي فرضتها
الامتحانات . لقد بدأ الموعد مع ديمي يقترب ، و صرت أشعر بالتوتر . انطلقت بسيارتي ، و وصلت إلى
مركز ((رينبو كلر مول)) ، قبل السابعة بقليل ، لأقابل ديمي صدفة عند مدخله 0 ركبنا المصعد إلى الدور
الاول ، وحينما دخلنا (الكيف دو ماسيه) ، خيل إلى أني أدخله لأول مرة . في المرة الماضية لم ألاحظ
فخامة الأثاث ، وتناسق الألوان . هناك أيضا موسيقى .. تدندن بصوت خافت . شعرت بانقباض ، المكان
حالم جدا ، وهو أليق بتناجي العشاق ، منه بالدعوة إلى الله ، قلت بتوتر :
ـ المكان غير مناسب ..
ـ لماذا .. ؟
ـ موسيقى وأضواء خافته ، نحن لم نأت لنتحدث عن (روميو وجوليت) ..
شعرت بالحرج وقالت :
ـ ماذا تقترح ..؟
ـ نغير المكان ..
ـ هل كنت ترى أن نذهب إلى مكدونالدز ، وغيره من الأماكن المشابهة ، حيث يتجمع ذلك النوع من
الشباب والبنات الذي تعرفه ..؟
لم أرد .. فأضافت :
ـ ما رأيك أن نذهب إلى منزلي ..؟
فقلت بسرعة :
ـ لا .. لا ..
قالت :
ـ منزلك ..
ـ غير مناسب ..
لقد أحرجتني جدا ولم تترك لي الخيار ، وبقيت لحظات مترددا ، ثم قلت :
ـ لا أريد الموسيقى ..
توجهت إلى مدير المحل ، وتحدثت معه قليلا ، ثم عادت وعلى وجهها ابتسامة ، وقالت :
ـ لن يكون هناك موسيقى ..
قادنا أحد العاملين في المقهى إلى ركن هادي ، وبدون موسيقى ..
ـ كيف .. ؟
.. سألتها ..
ـ انهم يتحكمون بالتوزيع الصوتي .
أخذنا أماكننا ، وتبادلنا الحديث بسرعة عن الامتحان ، حتى جاءت القهوة ، رشفت شيئا من قهوتي ،
وسألتها :
ـ هل هناك شئ محدد تودين السؤال عنه ..؟
أصلحت من جلستها وقالت :
ـ لعلك تذكر أني سألتك من قبل عن شيئين ، أحدهما كان التسامح ، والآخر الحب .. وهو الذي لم تتح لنا
الفرصة لنتحدث عنه .. أنا أعني كيف ينظر الإسلام إلى الحب ..؟
لم أدر بما أجيبها .. لكني أذكر أني بدأت هكذا :
ـ لم يعل الإسلام شيئا مثلما أعلى من شأن الحب ، حتى أنه ربطه بالرب سبحانه وتعالى وجعل الله عز
وجل ، هو الغاية التي ينتهي إليها الحب ، أيا كان نوعه . الإسلام حينما فعل ذلك ، أراد أن يجرد الحب من
كل رباط محسوس ، ومن كل رغبة ، أو شهوة بشرية آنية ، تتلاشى لحظة تحققها ، ليجعله متصلا بالله
مباشرة . فالحب فيه سبحانه ، أسمى درجات الحب ، ولا يتحقق إيمان بشر ، إذا لم يحب الله والرسول
صلى الله وعليه وسلم ، ولا يتحقق إيمانه .ز كاملا ، إذا لم يحب لأخيه المسلم ، ما يحب لنفسه .
لقد صار كل حب في الإسلام ، غايته الحب في الله . وحينما يؤكد الإسلام على هذا الجانب ، فإنه يهدف
إلى تجاوز المادي إلى الروحاني .. و الأرضي إلى العلوي السماوي .
كيف … قد تسألينني ..؟
إن المادي والأرضي ينتهيان إلى الفناء ، أما الروحاني والعلوي فمصيرهما الخلود . أليس الزواج بين
رجل و امرأة هو نتيجة حب ، بشكل من الأشكال . تأملي كيف ينظر الإسلام لأنواع الحب التي تؤدي إلى
نشوء علاقة بين رجل و امرأة ، تقود إلى الزواج . المال أولا ، ثم الجمال ، (أي ميزات الجسد ) ، ثم
المكانة الاجتماعية . وأخيرا الدين .. بما يعني من تمثل لكافة القيم العليا ، التي جاء بها الإسلام ، وفي
مقدمها ، حب الله سبحانه ، من خلال تنزيهه بالتوحيد ، وأن لا يشرك معه أحدا . الإسلام يثمن عاليا الحب
الأخير ، لأن غايته الله سبحانه ،و ينعي على الفرد تطلعه للأنواع الأخرى . الأنواع الأخرى .. مادية ..
زائلة .. مصيرها إلى الفناء : المال يفنى ، والجسد يبلى ، والمكانة الاجتماعية تزول .
لأن الحب طبيعته هكذا ، فإنه يقاوم عوامل الفناء ، بل هو يتجدد باستمرار .. إنه يستمد حياته من الذات
العليا ، التي هي مصدر الخلود . إن من طبيعة المادي أنك حينما تمتلكه تزهد فيه ، لأنه يفتقد لخاصية
التجدد والتسامي ، التي يملكها الروحاني . أضرب لك مثالا : ألسنا نشتهي الطعام اللذيذ ، وحينما
نملكه .. نمله ونزهد فيه . السنا نعشق الجمال ، فإذا ما أدركناه تطلعنا لآخر غيره .
انظري .. حسن التعامل ، الأدب ، الأخلاق ، الرحمة ، التعاون . ألسنا إذا ما وجدناها في إنسان تعلقنا به
، و كلما أزداد تمثلا لهذه الخصال ، زاد تمسكنا به . الإسلام تعامل مع هذين النوعين .. المادي و الروحاني
، على أساس من قدرة كل نوع على منح السعادة ، لأكبر عدد ممكن من الناس ولأطول مدة ممكنة .
الجمال مثلا ، يمكن أن يمنح السعادة والمتعة لشخص واحد فقط ، هو ذلك الذي يباشر الجمال .. بطبيعته
المحسوسة ، بشكل أولى ، ولمدة محدودة ، هي الفترة الزمنية التي يكون فيها محتويا على عنصر
الحياة والحيوية ، قبل أن تأتي على نضارته عوامل الزمن . بل إن الطبيعة المادية المحسوسة له ، تجعل
الاستمتاع به ، مرهون بلحظة المباشرة ، أو اللذة الآنية .
على الجانب الأخر ، خذي الأخلاق كمعادل لجمال الروح ، بما تحويه من رحمة ، وعطف ، وتعاون ، وأدب ،
وغيرها من الخصال الحميدة . كم من الناس تمنحهم السعادة ، دون أن يكون لعامل الزمن أثر على
امتدادها في عمق الزمان ، أو يمنع من شمولها و تمددها عائق المكان . الحب من هذا النوع يتجاوز
الجسد .. ليعانق الروح في افقها السرمدي .
جمال الروح يمكن أن يوجد في الرجل ، وفي المرأة ، وفي الأبيض و الأسود ، والشيخ والطفل . أما
الجمال المادي .. في الجسد ، المحسوس .. فلا . إنه امتياز خاص ، لفئة محدودة من الناس اختارها الله ،
لحكمة يعلمها هو سبحانه . الحب على أساس من الروح يا ديمي ، يفتح المجال واسعا للترقي في
مدارج الكمال ، فارتباط الروح بالذات العليا ، يمنحها القدرة على الإبداع والتسامي .. والزيادة . فنحن
نستطيع أن نكون اكثر رحمة ، وأكثر عطفا ، وأكثر تسامحا ، مرة بعد مرة ، مدفوعين بالحب الأسمى .. حبه
سبحانه وتعالى . لكننا لا نستطيع أن نكون أجمل ، و أجسامنا لن تكون اكثر نضارة ، و أنفاسنا لن تكون
أطيب رائحة .. في كل مرة ، لأن الجسد مرتبط بالأرضي ، الفاني .
جدير بحب كهذا يا ديمي … أن يؤول للزوال .
أظن أني قلت هذا الكلام ، وأشياء أخرى . المؤكد أن الذي كان يتكلم ليس لساني فقط ، بل جوارحي
كلها لا أدرى كم كوبا من القهوة شربت وأنا أتكلم . كنت أنظر في وجه ديمي ، بين وقت وآخر ، فأحس
إنها معي بكل جوارحها . بل كانت نظراتها .. يخيل إلي ، أنها تحاول أن تنفذ إلى أعماقي . كنت شابكا
كفي لبعضهما ، ويداي ممددتان على الطاولة أمامي حانيا رأسي ، حينما سمعتها ، تقول بصوت واهي
النبرات :
ـ هذا أجمل شئ سمعته في حياتي ..
استغرقتني لحظات تفكير ، لم انتبه خلالها إلا وكفاها تطبقان بهدوء على كفي .. شعرت بخدر يسري في
أوصالي ، ودفء يجتاحني ، حتى أحسست ذلك في حرارة أنفاسي . لوهلة استسلمت دون مقاومة لهذا
الوضع . في قرارة نفسي ، كنت أشعر بعطش شديد .. لشيء لا أدري ما هو . ربما السكينة والهدوء ..
والكف الذي استريح عليه .
هل المرأة تملك كل هذه القدرة على التوغل في الأعماق . أم هذا شئ خاص بها وحدها ..؟ كنت في
حالة استكانة تامة حين سمعتها تناديني :
ـ مصعب هل أنت بخير ..؟
رفعت رأسي ، وتأملت وجهها الذي يضج أنوثة وفتنة ، وأبصرت يدي بين يديها . يا إلهي
ماذا صنعت .. ؟ وتذكرت خالد وبكاؤه .. ودوت كلماته بعنف في :
”
من استشعر الموقف هان في عينيه كل شئ ” .
أحسست كأنما تيارا كهربائيا يسرى في جسدي ، ويهزني بعنف ، فسحبت يدي بسرعة فضربت كوب
القهوة ، فاندلقت القهوة الحارة علي ، وصرخت من شدة الألم ، فانفعلت هي وصرخت كذلك ، وهي
تصيح :
ـ أنا آسفة .. أنا آسفة ..
أسرع عامل المقهى باتجاهنا ، إثر سماع الأصوات ، وقام بمساعدتي في تنظيف ملابسي ، واحضر لي
مرهما لعمل إسعافات أولية . كان واضحا أني احتاج إلى علاج عاجل ، لذلك نصحنا بالذهاب إلى
المستشفى بسرعة . أصرت أن تأخذني بسيارتها إلى المستشفى . في الطريق .. ظلت تبكي ، وتعتذر
أنها لم تقصد .
أجريت الإسعافات اللازمة ، وعدنا إلى سيارتي ، بناء على طلبي ، رغم أنها كانت لا ترى أن أقود السيارة
بنفسي . تأكدت الآن أني مصاب منها ، ليس في يدي ، ولكن في قلبي . لم أتحرك حينما انحنت لترخى
رباط يدي ، فلامس شعرها وجهي . لقد فعلت تلك اللمسة فعل السم في جسدي ، أنا الآن ضعيف
المقاومة .. أنا الآن في خطر .
افترقنا بعد أن وعدتها أن أتصل بها ، لأطمئنها على حالتي الصحية . قالت ، وهي تمسك بيدي ،
لتساعدني على ركوب السيارة :
ـ ساكون قلقة إن لم تفعل .. لابد أن تتصل بي ..
لم أبد مقاومة تذكر .. بل لم أبد أية مقاومة ، وهي تضع يدها على جبيني ، و تؤكد علي ، بنظرات ملؤها
الرجاء ، أن لا أنسى الاتصال بها …
توجهت إلى بيتي ، وصرت أتأمل النهاية التي انتهت إليها علاقتي مع هذه الفتاة . تذكرتها وهي تبكي ،
ونحن في طريقنا إلى المستشفى . كانت تقول : ” لن أسامح نفسي إن أصابك أذى” .. و كررت أكثر من
مرة عبارة : ” أنا أحبك ، ولم اقصد أن أؤذيك” .. كانت هذه الكلمات تنغرس في وجداني عميقا .
بدأت الأفكار السيئة تراودني ، أثار لمسة كفيها ما زال يسرى نبضها في سائر جسدي
. نعومة راحتيها ، ودفئهما .. لم تفارقا خيالي إلى الآن ..شعرها يتراءى لي كسبائك من ذهب . حينما
وصلت إلى باب شقتي كرهت الدخول ، ولمت نفسي أن رفضت عرضها ، بأن تأتي معي لتطمئن علي .
دخلت المنزل وإذا بالهاتف يرن ، لا أتوقع أحدا معينا ، رفعت السماعة ، جاءني صوته من الطرف الثاني
هادئا ، رخيما ، حزينا :
ـ السلام عليكم .. كيف حالك ..؟
ـ من .. خالد ، أهلا بهذا الصوت ..
ـ رأيت فيك رؤيا البارحة .. فقلقت عليك ..
شعرت بانقباض وقلت :
ـ خيرا إن شاء الله ..؟
ـ خير ..
قص علي الرؤيا .. ثم سألته :
ـ وماذا عبرتها ..؟
ـ تنجو من فتنة ..
و أضاف :
ـ هل تتعرض لمشكلة في الوقت الراهن ..؟
أحسست بالخوف وقلت بسرعة :
ـ من أي نوع .. ؟ لا .. لا .. أبدا والحمد لله ..
ودعني و دعا لي . إنه رجل ملهم .. ينظر بنور الله . ظلت عبارته : تنجو من فتنة .. تتردد في ذهني مرة بعد
أخرى . هذه بشارة .. قلت في نفسي : اللهم نجني .
مر علي يومان لم أغادر فيها البيت ، خشية أن يسألني الاخوة عن سبب الإصابة في يدي . تخلفت عن
صلاة الجماعة .. واشعر بالذنب لذلك . لم أتصل بديمي كما وعدتها ، رغم أني أفكر بها معظم الوقت …
تناقض لم استطع أن أحله .
كيف انعتق من هذه الدوامة ..؟ سألت نفسي . بدأت أفكر بالاتصال بها ، حتى لا أعطي صورة سيئة عن
الإسلام .. هكذا زعمت لنفسي . ماذا لو قالت سآتيك ..؟ بدأت تلح علي الفكرة .. أن أكلمها .. وكدت
استسلم لها ، ثم وجدت أنى إن بقيت في شقتي فإني حتما سأتصل بها ، ولن أمانع أن تأتي عندي .
ثم ..؟ آه .. هذا هو السؤال ..
وصل الصراع في نفسي إلى أقصاه ، فقررت أن أخرج . قلت ، أذهب إلى المركز الإسلامي ، فقطعا
سأجد بعض الاخوة ، وهناك ، سأتسلى بهم ، وأظل بعيدا ، حتى لا أقع ضحية لتداعيات النفس الآثمة ..
الأمارة بالسوء ..
خرجت ، وحينما كنت أهم بركوب سيارتي ، سمعت صوتا يناديني ، فالتفت إلى مصدر الصوت كالملدوغ …
ـ يا الهي إنها هي .. كيف عرفت مكاني ..؟
شعرت بقلبي يهبط إلى قاع أحشائي ، وهي تنزل من سيارتها متجهة نحوي ، تتلفع بجاكيت خفيف تتقي
به برد ديسمبر القارس .. قالت :
ـ انت تسكن هنا ..؟
تلعثمت ولم أشأ أن أكذب ، وقلت :
ـ نعم .. كيف وصلت إلى هنا ..؟
ـ جئت لزيارة صديقة لي تقيم في نفس البناية .. ويبدو أن أمرا طارئا حدث ، فاضطرها للخروج ، فتركت
لي ملاحظة على باب منزلها تخبرني فيها إنها ستعود بعد ثلاثين دقيقة .. وأنا كما ترى ، انتظر عودتها في
هذا البرد القارس .
قالت عبارتها الأخيرة ، وهي ترمقني باستعطاف ، فأدركت انها تريد ملجأ من البرد ، ريثما تعود صاحبتها .
ران بيتنا صمت ، لم أدر كيف اقطعه ، وكنت خلالها أقلب أفكارا كثيرة ، معظمها سيء . و رغم أني ملتحف
بمعطف ثقيل ، فقد شعرت ببرودة تدب في جسمي ، ولم يحل الطقس البارد جدا ، دون تقافز حبات من
العرق على جبيني . كنت انظر إليها تتأملني أتصبب عرقا في هذا البرد ، وهي تنكمش من شدته ..
فبادرتني قائلة :
ـ أنا آسفة .. أنت خارج ، وأنا قد أخرتك .. معذرة على هذه البلادة ..
كان وجهها أصفر شاحبا من شدة البرد .. قلت لها :
ـ لا .. أبدا ، ليس هناك شئ مهم ..! لم لا تنتظرين عندي في شقتي ، إلى حين عودة صاحبتك ، ونتناول
خلال ذلك قهوة تشيع الدفء في أطرافنا التي تكاد تنكسر من هذا الزمهرير ..؟
لم أكد أقول ذلك حتى تدفق الدم في وجهها الشاحب ، فاستعاد نضارته ، وقالت :
ـ أنا أشعر بامتنان عظيم للطفك الكبير .. كما أنني متلهفة لاستكمال نقاشنا السابق .. ثم أضافت ..
وأستطيع أن ألغي موعدي مع صديقتي .. إذا تطلب الأمر ذلك .
إنها دعوة مفتوحة بلا جدال .. حدثت نفسي ، وأنا انصرف وإياها راجعين باتجاه شقتي ، التي لم تكن تبعد
سوى خمسين خطوة عن موقف السيارات . داخلني هم كبير ، وزاد خفقان قلبي ، وكنت خلال ذلك في
صراع نفسي عظيم ، جعلني في شغل عن حديثها الذي لا أدري ما كنهه .
تقول لي نفسي : أليس هذا ما تريد .. أليس هذا ما كان حديث نفسك ، خلال اليومين الماضين ..؟ هاهي
قد جاءتك تسعى على قدميها .. أنت لم تذهب إليها ، بل أنت لم تدعها .. إنها فرصة ، والله غفور رحيم .
اجلس معها ، وإن جاء العرض منها فليس ذنبك ، أنت قد قاومت و ابن آدم ضعيف ، والله سيعذرك …!
ويجيء صوت الضمير الحي : حذار فهذا هو البلاء العظيم .. أين الخوف من الله .. أين الدعوة إلى الله ..؟
كيف إذا جيء بك يوم القيامة ، ورفعت على رؤوس الأشهاد ، وقيل من هذا .. فتطاولت أعناق من قد يكون
عرفك في هذه الدنيا فيقولون : هذا نعرفه .. هذا الداعية إلى الله مصعب . فيقال : لا .. هذا الزاني
مصعب . يا إلهي أنت أرحم بي أن أصير إلى هذا المصير .
كنا في منتصف الدرج على بعد خطوات من باب شقتي ، حين تعثرت وسقطت ، لشدة الاضطراب الذي
انتابني ، بسبب الصراع الداخلي العنيف . ساعدتني على النهوض .. كنت شاحبا ، غاض الدم في وجهي
، أتصبب عرقا ، وأطرافي ترتجف ، قالت لي :
ـ أنت متعب بجد ..؟
ـ نوعا ما .. ديمي أنا لا أستطيع أن أبقى معك .. أنا مرتبط ، ولا بد أن أذهب ..
شعرت بالخجل ، وقالت :
ـ لقد احسست بأني أحرجتك .. كم أنا غبية ، أنا اسفة جدا ، سأذهب 0
ـ لا .. لن تذهبي ، بل ابق وانتظري صديقتك في منزلي ، واعتبري نفسك في بيتك .. اصنعي لنفسك
قهوة .. وإن كنت جائعة ، ورغبت في الأكل ، فلا تترددي .. فالثلاجة ، والمطبخ تحت تصرفك .. وإذا خرجت
تأكدي من أن الباب مغلق ، وضعي المفتاح في صندوق البريد رقم 7 في المدخل الرئيسي للبناية ..
قالت وفي عينيها علامات استفهام كثيرة :
ـ هل أنت متأكد ..؟
هززت رأسي موافقا ..
عادت لتسألني :
ـ هل تحتاج إلى مساعدة .. هل تستطيع أن تقود السيارة بنفسك .. ؟
ـنعم ..
هل أنت متأكد بأنك ستكون بخير .. ؟
ـ نعم .. ثم أضفت في سري .. ” إذا كنت بعيدا عنك ” 0
أمسكت يدي بيديها ، و دمعتان حائرتان في عينيها ، و قالت :
ـ مصعب أنا أحبك ..
تسمرت عيناي في وجهها الطفولي ، و الألم يفتك بقلبي .. و قلت :
ـ و أنا كذلك .. لكني يجب أن أذهب ..
سحبت يدي من يديها ، و انحدرت مع الدرج ،و حينما حانت مني إلتفاتة ، و أنا في آخر الدرج ،كانت ما
زالت هناك … الدمعتان من خلفهما عيناها الزرقاوان ، بدتا كموجتين انكسرتا على شاطئ لازوردي …
و أنا ..
مثل صياد أدركه الغروب ..
على شاطئ موحش ..
شباكه فارغة ..
قلبه فارغ ..
إلا من رحمة الله ..
انتهت ..