الســلام عليكــم ورحمـة الله وبـركــاتــه ..
يتبـع ..ديمي حب أول (الجـزء الثــاني)
قالت ، وعيناها على عيني :
ـ هل هناك مكان للتسامح والحب في الإسلام .. ؟
طأطأت رأسي ، وتذكرت أني لابد أن أديم النظر إليها وأنا أحدثها ، مجيبا على سؤالها . هكذا هو العرف
في ثقافتها ، و إلا كنت قليل أدب ، ومحتقر للطرف الآخر ، الذي أتحدث معه . يا إلهي ماذا أصنع ؟ لقد
أصبح النظر إليها يعذبني مرتين . يعذب قلبي ، الذي تاه في فضاءات وجهها ، الذي أبدعت قدره الخالق
في تصويره ، ويعذب نفسي التي تعلم أنها ترتع في حرام .
يا إلهي ساعدني فإن قدمي تزل : هل أطيع نفسي وشيطاني ، الذي يتمسح بالعرف في ثقافتها ..
وبالدعوة . أم أطيع نداء ضميري ، الذي يقول لي ، بل يصرخ بي :
” إنك في دروب الغواية سائر ” ؟ هل حقا يعنيك أن تحدثها عن الإسلام ..؟ أم يعنيك أن تتلذذ برؤية مواقع
الجمال في وجهها العاجي الصغير . تطل على وجنتيها المتوردتين ، ثم تتأمل هاتين الشفتين القرمزيتين ،
ثم تبحر في عينيها الزرقاوين “. ظنت أني حينما طأطأت رأسي ، وأطلت السكوت ، أنها قد أساءت لي
بسؤالها ، فقالت :
ـ أنا جد آسفة ، لم أتعمد أن أسئ إليك ، ولم أقصد أن انتقد الإسلام ، أو اتهمه بشيء .. ربما كان يجب أن
أقول : كيف ينظر الإسلام للحب والتسامح ، مقارنة بثقافات أخرى .. ؟ أو ربما كان سؤالي سخيفا تماما ،
ولا معنى له …
رفعت رأسي فالتقت عينانا . كان الشعور بالحرج ، والاحساس بالذنب ، قد صبغ وجهها بحمره ، فاستحال
إلى شئ آخر مذهلا . عيناها انكسرتا بتذلل ، فأضافتا إلى ذلك كله مشهدا استولى علي ، فقلت بألم
ظاهر :
ـ ديمي يكفي ..
فاستعبرت .. وقالت بصوت يتهدج :
ـ سامحني ..
ـ أنت لم تفعلي أي خطأ .. أنا فقط كنت أفكر بالطريقة التي أجيب بها على تساؤلاتك .
كان مستحيلا أن تستمر عيناي معلقتان بوجهها . أي تبرير سيكون خداعا وغشا ، لا علاقة له بدعوة ، أو
بتأليف قلب .. قلت لها :
ـ ديمي هل تسمحين لي أن لا أطيل النظر إلى وجهك .. ؟ هناك مبررات لها علاقة بثقافتي .. وهي قطعا
لا تنطوي على أي مضامين سلبية .. قد تأتي مناسبة أخرى ، وأوضح لك لماذا . وافقت .. وبدأت الحديث ..
حدثتها عن التسامح كقيمة من قيم الإسلام الكبرى ، كما دلت على ذلك النصوص من القرآن والسنة .
وعرضت لمواقف الرسول صلى الله عليه وسلم ، كتطبيق عملي لتلك النصوص . موقفه صلى الله عليه
وسلم من قريش يوم فتح مكة ، حينما قال لهم : “اذهبوا فأنتم الطلقاء” . وأخذتها في سياحة في تاريخ
أمتنا العريق .
كنت بين وقت وآخر ، اختلس نظرة لوجهها ، لأرى وقع كلامي عليها . كان التأثر باديا عليها ، لكن لم أكن
أعلم يقينا ، هل ذلك بسبب ما أقول ، أم تفاعلا مع صوتي ، الذي بدا مجهدا ، حزينا ، وأحيانا متوسلا .. أن
تقول : آمنت بدينك واتبعت الرسول (صلى الله عليه وسلم) ..
أم تراها أشفقت علي .. و هي ترى وجهي قد شحب ، حتى خلت أن الدم غاض منه ، وفاض في محياها
، الذي يزداد جمالا كلما ، ازدادت ألما ..
سكت .. ثم نظرت إليها ، وقلت :
ـ هذا ما لدي ..
ـ عظيم .. رائع ، ماذا عن الحب .. ؟
ـ آه الحب .. لم لا نؤجل ذلك إلى وقت آخر يا ديمي .. ؟
كنت أريد أن ارتاح ، أن أضع حدا لهذا الأمر ، الذي لا أراه يقودني إلا إلى متاهة .. كلما سرت فيها ..
أغرتني في التوغل أكثر . “ما أنا ولهذه المرأة ” ” أقول لنفسي . إن كانت تريد الإسلام ، فقد حصلت على
ما يضع قدمها على الطريق إليه ” .
لماذا وقت آخر ..؟ لم لا أقول لها لا وقت لدي ، فكري بما تحدثنا به ، واتصلي بالمركز الإسلامي لمزيد من
المعلومات . هل أعترف بعجزي ، بل خوفي من أن أقول لها ذلك ..؟
لا .. لا أظن إلا أنني سأتوقف عند هذا الحد ، قبل أن أصل لمرحلة أكون فيها عاجزا عن فعل أي شئ
تماما ..
قطعت حبل أفكاري و قلت :
ـ ديمي .. أنا بحاجة إلى أوراقي في أقرب فرصة ، ليس لدي وقت كاف لتغطية المقرر ، والامتحان كما
تعلمين بعد ثلاثة أيام ، ولدي امتحانات أخرى ..
ـ عفوا ،يبدو أني أضعت وقتك ، و أزعجتك جدا بتصرفاتي الحمقاء ، لم أدرك كم أنت مشغول ومتعب …
قالت معتذرة .. ثم أضافت :
ـ ما رأيك لو نذاكر مقرر الدكتور اندرسون .. (مناهج البحث) معا 0 أستطيع أن أنفعك كثيرا في الإحصاء ،
بحكم دراستي لعلم النفس .. و أنت ستفيدني في النظريات ، وهو ما لاحظته ، من خلال تعليقاتك المهمة
على محاضرات دكتور فريدمان .
يا إلهى هل أنا بحاجة لعرض مثل هذا ..؟
قلت لها :
ـ لا .. لا أظن أني سأفيدك .. فأنا طريقتي في الدراسة متعبة ، لمن لم يعتد عليها ..
ـ كما تشاء .. أين ستكون الليلة لأحضر لك أوراقك ..؟
فاجأني سؤالها ، فقلت :
ـ آه … الليلة سأذهب لشراء بعض الأغراض الشخصية من مركز (رينبو كلر مول) 0 ردت بسرعة :
ـ جيدا جدا ، المكان قريب من حيث أسكن ، متى ستكون هناك ..؟
ـ بين السادسة والسابعة ..
تعمدت أن لا أعطيها وقتا محددا ، حتى أجعلها تغير رأيها في شأن مقابلتي ، رغم حاجتي الماسة
لأوراقي .. قالت :
ـ ما رأيك لو نتقابل الساعة السابعة وعشر دقائق في مقهى (الكيف دوماسيه) في الطابق الأول ، على
يمنيك وأنت خارج من المصعد ؟
اتفقنا على المكان والوقت .. وانصرفت ، لتتركني مع همومي وأوجاعي ، التي صارت تتضاعف بعد كل
لقاء أراها ، وأحدثها فيه ..
ألقيت بيدي على جانبي الكرسي ، وأسدلت رأسي على كتفي ، وتنفست نفسا عميقا . لم ْأنتبه إلا على
صوت (مارك) ، شريكي في المكان ، الذي انتشلني من حالة تفكير عميق ، استرسلت فيه .. قال :
ـ لابد أنه كان موضوعا ساخنا ..؟
ألتفت إليه ، وتذكرت أني نسيت كل شئ ، حين حضرت ديمي ، بما في ذلك مارك الذي يزعجه أي شئ .
قلت مجيبا على سؤاله ، الذي لا يخلو من خبث :
ـ لا بد أنك تحملت كثيرا يا مارك ، فمعذرة ..
حاولت العودة إلى دروسي مرة ثانية ، لكن أنّى لي ذلك . قلبت الكتاب مرة ، ومرتين ، وثلاث ، دون
فائدة . أصبح رأسي مملوءا بها . بوجهها .. وبصوتها .. واليوم أضيف إلى ذلك بكاؤها ، وعبرتها .. إذ تخنق
صوتها المتهدج .. فتحيله إلى شيء خرافي …
الساعة تقترب من الواحدة .. لم يبق على صلاة الظهر كثيرا . فكرت أن أذهب إلى المركز الإسلامي ،
أقرأ شيئا من القرآن ، وأصلي الظهر جماعة ، مع من يكون موجودا من الإخوة . لا شك أني سأرتاح مع
كلام ربي ، وفي بيت من بيوته ، ومع اخوة لي ، تذكرني بالله رؤيتهم ..
هكذا قلت لنفسي ، وأنا أجمع كتبي وأوراقي ، وساعتي الممددة على الطاولة . عندما حملت أوراقي ،
وشرعت بالمسير رمقت مارك بنظرة ، فبادرني قائلا :
ـ الإنسان يحتاج إلى الراحة والهدوء ، بعد كل مرة يلتقي بواحدة منهن ..
ـ ماذا تقصد ..؟
ـ النساء طبعا .. لذلك تراني قد تخلصت من هذا الصداع . أنت شاب .. أنا أفهم ذلك ، لكن حاول أن تتلافى
مثل هذه الأشياء .. في فترة الامتحانات على الأخص ..
ـ شكرا مارك ..
قلت ، وأنا استدير منصرفا ، ثم تمتمت في نفسي :
الأمر أكبر مما تتصوره ..
وصلت المسجد .. قرأت ما تيسر ، وصليت . لكن .. لم يكن هناك مجال للحديث مع أحد . الكل مشغول
بالامتحانات . صحيح أنني أكثر راحة من ذي قبل ، لكني أشعر بالم في داخلي . خرجت من المسجد ، و
توجهت إلى منزلي . حين دخلت ، رميت بكل شيء على طاولة الطعام ..عند المدخل ، و وجدت صعوبة في
خلع حذائي . سحبت نفسي و تهالكت على الأريكة في الصالة .
حينما تغشاني النعاس .. و بدأ جسمي يفتر .. دق الهاتف ، رفعت السماعة ، فجاءني الصوت ناعما ..
يقول :
ـ هذا أنت
قلت بإحباط :
ـ ماذا ..؟
ـ أوه .. آسفة لابد أنه رقم خطأ .. !
للحظة داخلني ألم شديد ، ظننت أنها هي ، وسيطر علي هم واحد ، كيف عرفت
رقمي ..! سحبت سلك الهاتف ، ورميت بنفسي على فراشي . أريد شيئا واحدا .. أريد أن انساها .. لعل
الله أن يلهمني شيئا في منامي ، يخلصني من هذا البلاء .
نمت نوما عميقا لساعتين أو اكثر . هذه أول مرة أنام فيها .. منذ تعرضت لي هذه
( الساحرة ) ، دون أن تكدر أحلامي الكوابيس . استيقظت وصليت العصر ، ووقفت طويلا بين يدي خالقي .
غدا الجمعة يوم مبارك ، وفيه ساعة استجابة . سألح على ربي بالدعاء ، ففي قلبي من تلك المرأة شئ
كثير ، رغم أني أدعي خلاف ذلك . لن أذهب إلى المكتبة ، أو إلى أي مكان آخر . لقد صار يخيل لي أنها
ستطلع لي في كل مكان .
تناولت كتاب الإحصاء ، وبعد قليل وجدت أن لا فائدة من معالجة هذا الإحصاء اللعين . كيف يقول عبد العزيز
، عن هذه المادة الكريهة ، أنها رياضة العقل ..؟! رياضة ..؟! هذا تمحك بالكلام لا معنى له . أليس عجيبا أن
تتمكن ديمي من هذه المادة الثقيلة المعقدة ، وهي الفتاة اللعوب ، التي أقرب ما تكون للدمية البسيطة
، المعدة لكل أنواع الترفيه واللعب ، منها إلى ( كائن ) مهيأ للتعامل مع مسائل عقلية جامدة ..؟
كيف يجتمع وداعة ورقة ديمي .. وتعقيد الإحصاء وثقل ظله ..؟ هل هذه من نبوءات الشاعر العربي القديم
، الذي قال :
ضدان لما اجتمعا حسنا …. والضد يظهر حسنة الضد .
إذا كان حسن ديمي أمر مفروغ منه .. أين الحسن في الإحصاء ..؟ آه … يبدو أن هذا الإحصاء سيحولني
فيلسوفا .
رياضة ..؟ سامحك الله يا عبد العزيز ..
هل قلت رياضة …؟! وجدتها .. سأتصل به ، يا رب ليته يكون موجودا .
ـ ألو .. السلام عليكم ، كيف الحال يا رياض ، هل أزعجتك ..؟ جزاك الله خيرا .. وأنا كذلك آنس بسماع
صوتك .. لدى مشكلة بسيطة … لا .. مجرد أزمة مع مادة الإحصاء .. وحيث أن سلطتك عليها نافذة ، فإني
آمل أن تنصفني منها …! شرط .. ما هو شرطك ..؟ الله أكبر… أنت أروع من أحتكم إليه .. تمكنني من
عدوي الإحصاء ، وتعشيني كبابا ، سآتيك خلال دقائق .. هل أحضر معي شيئا .. غير الإحصاء طبعا .. ثلج
وكولا ..؟ حسنا مع السلامة ..
شكرا يا عبد العزيز لولا كلمتك (رياضة) ، لما تذكرت رياض …
ربي .. هل هذه بوادر النصر على الشيطان … على الهوى .. على فتنه ديمي ، التي تكاد تسحب
قدمي ..؟ ربي إن موعد لقاءها يقترب ، وأنا أقاوم .. ما دمت بعيدا عنها ، لكني حالما أراها تغلبني
نفسي .. ، ما يعذبني يا ربي ، أن كل هذا يحدث باسم دعوتها إلى الإسلام . ربي كانت نفسي تحدثني
أن ألجأ إلى ديمي لتساعدني في الإحصاء ، فلجأت إليك ولم تخيب رجائي ، ربي الوقت يمضي
بسرعة .. فكن معي يا ربي .
قضيت وقتا ممتعا مع رياض . شاب من خيره الاخوة أدبا ، وخلقا ، وعلما . متزوج وأب لطفل .. شعرت بحرج
، إذ لم أكن أعلم بأن زوجته قد عادت من بلدها ، بعد أن اضطرت لملازمة والدتها المريضة لفترة من الوقت
، بقى رياض خلالها لوحده .
قلت لرياض معتذرا :
ـ لقد سطوت على وقت غيري .. فلم أكن أعلم أن الأهل قـد عادوا .
قال بروح الدعابة ، التي لا تفارقه :
ـ لقد رأت أم الحارث ، يعني زوجته ، أن نتعشى معاً يوما دون يوم ، حتى توطن نفسها على طبيعة الحياة ،
بوجود زوجة ثانية .
قلت له مازحـا :
ـ اعتقد أنها ضحكت عليك ، ما دامت المسألة مجرد فكرة .
ـ لا … فأنا اتبع معها سياسة الخطوة خطوة . لقد كسرت الحاجز النفسي ، تجاه وجود امرأة ثانية معنا ،
أي (حقها في الوجود) ، نحن الآن في مرحلة التطبيع ، أي إمكانية التعايش في مكان واحد ، أي تحت
سقف مظلة (إقليمية)..، أقصد بيت واحد … !
ضحكنا ، ثم أضاف :
ـ يحسن بنا أن نغير الحديث ، فالحلا و الشاي لم يصلا بعد من عند أم الحارث ، ولا نريد أن نقع ضحايا
مقاطعة من أي نوع .
شرح لي رياض الإحصاء كأحسن ما يكون ، وأحسست أن مغاليق المادة فد انفتحت لي ، وانزاح عن
صدري عبء كبير …
صلينا المغرب ، وأكرمني رياض وأم الحارث بكأس من الزنجبيل . كنت ساكنا جدا ، وأنا أحمل الحارث
لأقبله ، استعدادا للخروج . طعم الزنجبيل الدافئ اللذيذ ، وابتسامة الحارث العذبة ، وعبارات الود
والمجاملة ، التي أغدقها علي رياض ، هي آخر ما كنت أظن أني سأحمله معي من هذه الأمسية
الجميلة .
كنت أنظر إلى ساعة الحائط ، التي تشير إلى السادسة والنصف ، حينما وضعت الحارث بعد أن طبعت
قبلة على جبينه ، و كنت .على وشك أن أهم بالخروج ، عندما قال لي رياض ، بدون مقدمات :
ـ مصعب .. ألم تفكر في الزواج ..؟
امتقع لوني وارتبكت .. قلت في نفسي : (هل تراه لاحظ علي شيئا .. هل رآني معها .. ؟) أجبت ، وأنا
أحاول أن أبدو طبيعيا :
ـ تكلمت مع الوالدة بهذا الشأن ..
قال ضاحكا ، وهو يضغط على يدي :
ـ إذن الإشاعة التي تقول أنك ستتزوج أمريكية ليست صحيحة ..؟!!
جف حلقي ، ونظرت إليه بشك ، وقلت بصوت متقطع :
ـ إشاعة .. أية إشاعة ..؟
ضحك وقال :
ـ رأيتك أنا و عبد الرحمن ، تتحدث مع العميدة كارولين ديفز ، عميدة شئون الطلبة الأجانب .. فقال عبد
الرحمن ، لو يضحي مصعب ، ويتزوج هذه العجوز ، لقدم خدمة عظيمة لجمعية الطلبة المسلمين .
شعرت كأنما سكب علي ماء بارد ، ولم أحس بشيء من حولي سوى يد رياض ، التي ما زالت ممسكة
بيدي ، و صدى ضحكته المجلجلة ، التي أطلقها بعد تعليقه الساخر ، على حديثي مع عميده الطلاب
الأجانب .. ابتسمت ابتسامة مرة ، وأنا اسحب يدي من يده مودعا كنت وأنا أجر خطواتي ثقيلة إلى
السيارة ، أحس كأني ناهض الساعة من فراش المرض . لقد أرعبتني يا رياض بمزحتك الثقيلة ، كيف لو
كان التي رأيتموني أحدثها تلك ( الساحرة ) ، هل كنتم ستقولون يقدم خدمة جلى للإسلام ..؟! هل
ستكون الإشاعة ، (التي ما كانت) .. أنني سأتزوجها .. أم شيئا آخر ..؟
على أية حال (جاءت سليمة) ، كما يقولون في الأمثال . هل هذا إنذار لي من ربي بأنه مازال يستر علي
، رغم إصراري على فضح نفسي . يا ربي ساعدني ، فإني أشعر أني ازداد ضعفا كلما ازداد الوقت
اقترابا .
وصلت (الكيف دوماسيه) متأخرا عشر دقائق ، وكنت أمني نفسي أن لا أجدها ، بعد هذا التأخير . حينما
وضعت قدمي على مدخل المحل ، رأيتها جالسة على إحدى الطاولات . كنت عازما على أن لا أنجر معها
في أي حديث ، أن آخذ أوراقي وأمضي .
لم يبد أنها متضايقة من تأخري ، بل إنها بادرتني ، بعد أن وصلت إليها ، بالتحية والاعتذار ، قائلة :
ـ أنا آسفة ، لقد تأخرت عليك ، لقد وصلت الآن .. لعلك جئت ولم تجدني على الموعد الذي اتفقنا عليه ..؟
لم تكن صادقة ، فالقهوة في كوبها باردة ، ولم يبقى منها إلا أزيد من النصف بقليل ، وكان واضحا أنها
وصلت إلى هنا على الموعد ، أو ربما قبله بخمس دقائق ، لكنها أرادت أن تلطف الجو بهذا التبرير
المهذب ..
قلت :
ـ لا .. أنا الذي تأخرت ، لارتباطي بموعد سابق .. أنا آسف .
ظللت واقفا ، بانتظار أن تعطيني أوراقي لأنصرف ، لكنها لم تفعل ، بل قالت :
ـ ألا تجلس ..؟
ـ أنا مستعجل .. ومشغول كما تعلمين .
نظرت إلى نظرة ملؤها استعطاف ، وقالت :
ـ لقد طلبت لك كوب قهوة ، وأعدك .. لن يكون هناك أحاديث ، من أي نوع ..
جلست دون أن أتكلم .. جاءت القهوة ، قالت :
ـ دعني أخدمك .. ما مقدار السكر ..؟
ـ مكعبين ..
ـ حليب ..؟
ـ نعم ..
خفقتها بالملعقة ثم قدمتها لي .
ـ شكرا ..
خيم علينا الصمت ، أكره مثل هذه المواقف .. لكن ماذا أصنع ، لا أستطيع أن أتمادى اكثر ، العلاقة تنحو
في اتجاه لم أعد أسيطر عليه ، مهما بررت لنفسي نبل الغاية . شعرت هي بالإحراج .. قالت :
ـ أطلب لك شيئا تأكله .. أنا سأطلب لنفسي (كروسون) ..؟
ـ لا .. شكرا ..
قالت ، محاولة دفعي للكلام :
ـ كيف الإحصاء ..؟
ـ ممتاز ..
ـ حقا .. هذه أخبار سارة ، كنت أنوي أن أعرض المساعدة .
ـ أحد الأصدقاء ساعدني ..
ردت بلهجة لا تخلو من الغيرة :
ـ لابد أنها صديقة خاصة ..
أجبت بحزم :
ـ إنه صديق ..
خجلت .. و قالت :
ـ من بلدك .. ؟
ـ نوعا ما .. إذا اعتبرنا الوطن العربي الكبير بلد واحد ..
علقت .. وهي تفرج عن ابتسامة مترددة :
ـ هذا الكلام كأنه سياسة ، وأنا لا افهم في السياسة كثيرا ..
ابتسمت ابتسامة باهتة ، دون أن أعقب ، ونظرت إلى ساعتي ، ففهمت ما اقصد .. فقالت :
ـ تريد أن تذهب ، كنت قد نويت أن أدعوك إلى مطعم (هاي رووف) .. إنهم يقدمون عرضا خاصا ، ليلة كل
جمعة
ـ .. يؤسفني أن لا أكون قادرا على تلبية دعوتك ، فقد تعشيت عند أحد الأصدقاء قبل أن آتيك .. كما أني
مشغول كما أخبرتك من قبل ..
ثم أضفت ، محاولا تعزيتها لرفضي دعوتها ، وتعاملي معها بهذه الطريقة الرسمية جدا :
ـ تستطيعين أن تذهبي الليلة وحدك .. وآمل أن تتاح لنا الفرصة معا .. مستقبلا ..
رأيت الانكسار والخيبة على وجهها ، وهي ترد علي بأسى :
ـ العرض مفتوح لشخصين فأكثر فقط .. وعلى أي حال ، لن أموت جوعا في هذه المدينة المليئة بالمطاعم
الرديئة ، التي تفتح أبوابها باستمرار ، للخائبين أمثالي …
نهضت .. و توجهت لأدفع ثمن القهوة و الكروسون ، الذي لم تأكله .. رمقتني بنظرة عتاب ، و قالت :
ـ أنت ضيفي .. رغم اني مضيفة ثقيلة الظل ..
طأطأت رأسي ولم أرد . دفعت ثمن القهوة ، ثم اتجهنا معا إلى مواقف السيارات ، دون أن يحدث أحدنا
الآخر . شعرت بتأنيب ضمير على هذا الجفاء ، الذي عاملتها به ، وقبل أن نفترق ، كل إلى سيارته ، التفت
إليها ، و قلت :
ـ ديمي سامحيني ..
نظرت إلي بعينين تفيضان بالألم .. وقالت :
ـ لا شيء ألبته ..
حينما ركبت سيارتي انتبهت إلى الكيس الذي حملني إياه رياض ، والمملوء بما بقى من عشائنا .
أسرعت بالسيارة في اتجاهها ، وحينما حاذيتها ناديتها :
ـ ديمي ..
التفتت ، وكأن صوتي هاتف نزل عليها من السماء . كانت تبكي ، فانقبض قلبي ، لكني تحاملت ، وقلت :
ـ معي طعام لذيذ جدا ، يحتاج إلى تسخين فقط ، اعتبريه اعتذارا غير كامل ، على تصرف فج ..
إنداحت على صفحة وجهها دوائر من السرور ، فأخذته ، وهي تقول :
ـ اقبله .. ليس على إنه اعتذار .. إنه شيء أكثر من ذلك .. طابت ليلتك ، وأمل أن يحالفك التوفيق في
امتحاناتك .. إلى اللقاء يوم الاثنين ، في امتحان الدكتور اندرسون .
في أعماقي لم أكن مرتاحا للطريقة التي تم بها اللقاء ، نفسي تنازعني إليها ، فكرت أن اعتذر لها يوم
الاثنين . لكن عن ماذا .. يقول لي عقلي هذه المرة .. ؟ .
وساوس النفس والشيطان تقول لي : (قد تأثم بتنفيرها من الإسلام) . في قرارة نفسي أعلم أنه الهوى
والرغبة فيها لذاتها ، وإن كان مع حظ النفس شيئا للإسلام ، فلا بأس . لو كان رجلا ، أو حتى امرأة قليلة
الحظ من الجمال ، اكنت تتعب كل هذا التعب ..
اكنت تلوم نفسك .. كل هذا اللوم .. ؟
حين وصلت البيت كان الصراع داخل نفسي قد بلغ مني مبلغة ، بكيت .. بكيت كثيرا ، بكيت حينما تذكرت ،
أنني الليلة حدثتني نفسي أن أضع يدي في يدها ، و أقول لها وداعا . داهمني شيطاني بفكرة أن
ملامسة يدي لكفها ستطفئ هذه النيران المشتعلة في جوفي ، وأن الرغبة المتقدة في داخلي ستخبو
، بمجرد أن أحس بنبضها ينتفض في كفي ..
نحن هكذا نتوتر أمام كل تجربة جديدة ، أو مغامرة مجهولة .. كان هذا حديث نفسي ..
” كف يا شيطاني ” . هذه آخر صيحة دوت في داخلي ، حينما تراجعت عن تلك الفكرة السيئة .. في تلك
اللحظة أيضا .. تذكرت (خالد) ، عندما قرأ سورة النازعات ، يوم صلى بنا العشاء قبل أسبوعين 0 تذكرت
خالد ، عندما عجز عن إكمال السورة لأكثر من عشر دقائق .. بعد أن غلبه البكاء وهو يقرأ :
” وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ”
ظل خالد يرددها ويغلبه البكاء 0 لم أبك في حياتي مثل تلك الليلة 0 كان صوت خالد الندي يكاد يتشقق
عندما يصل إلى قوله تعالى : “مقام ربه” .
يا لهول الموقف .. ثم حينما يصل إلى :
“ونهى النفس عن الهوى” .. يخيل إلى أن كل ما فيه يبكي . كنت أبصر جسده كله يرتعش ، لحظة ينطق
لسانه بكلمة الهوى . يشرق بالدمع ثم ينتحب نحيبا يصدع الجبال الصم . وعندما جذب من أعماقه الآية
التي تليها :
” يسألونك عن الساعة ” شهق شهقة حسبت روحه تخرج معها .
خالد رجل رباني ، بكاء ، يستشعر الموقف بين يدي المولى سبحانه . وإذا بكى ، وكثيرا ما يفعل ، يذيب
جلاميد الصخر . آه يا خالد ليت لي قلبك .. ليت لي رهافة إحساسك . ليته لي .. حتى أخاف مقام ربي ، و
أنهي نفسي عن الهوى . ليت لي .. حتى أكون كما قلت :
من استشعر الموقف هان كل شئ من أمر الدنيا في عينيه .. حتى لو كانت ديمي بكل فتنتها وإغوائها .
مر علي ساعتان وأنا على هذه الحالة ، بكيت حتى خلت أني اغتسلت كلي بدموعي . أحسست أن
الدمع الحار ، الذي سال غزيرا من مآقي ، قد غسل كل العناء في قلبي ، صليت خلالها العشاء ، كما لم
أصلى مثل تلك الصلاة في حياتي . شعرت كم تكون الصلاة لذيذة حينما يكون القلب مشرعا لنداء السماء
، وكم تكون الصلاة ذات معنى حينما لا تستشعر حولك إلا الموقف .. والصحف تتطاير .
يا الله أي عالم علوي كنت تسبح فيه يا خالد ، وأنا أطارد سرابا .. وهما .. شيطانا . أأبلغ ما تبلغه ، وأنا
ألهث خلف المحسوس ، الفاني الذي سيأكله الدود ، قبل أن يخالطه التراب ، وأنت الذي تحلق في اللا
محسوس ، في السرمدي .. في تلك الآفاق النورانية .
ما الجسد يا خالد إلا امتداد للدوني ، للحضيض ، للأرضي ، لذلك حري به أن يجعل من يتطلع إليه ، ويلبي
رغباته أن يلتصق بالأرض ، لماذا .. ؟ لأنه انسلخ من العلوي ، واتبع هواه .. اتبع هواه يا خالد .. فكان
ماذا ..؟ كان من الغاوين .. ولم يكن من الدعاة الهداة .. رحماك يا رب .
مرت أيام نهاية الأسبوع سريعة وعادية 0 ذاكرت جيدا ، حيث لم أغادر البيت إلا قليلا … أوقات الصلوات
فقط . مطعم أبو أيمن السوري قدم لي حلا مثاليا ، من خلال وجبة المقبلات والمشويات اللذيذة ، التي
تكفل بإيصالها ، دون مبالغ إضافية ، إلى المنزل . وهي معاملة خاصة للملتزمين ، كما يقول أبو أيمن ،
الذي يشعر بعظيم الامتنان لهم ، لحفظهم أبناءه وأبناء المسلمين ، من خلال المدرسة التي تشرف عليها
جمعية الطلبة المسلمين ، والمعسكرات التربوية التي تقيمها .
]dld>>pf H,g (hg[JJ.x hgehkJd) hgehkJd)