هذه هي الحقيقة، فنحن نخاف من الخوض في هذه الأمور ونعيبها على بعضنا البعض وكأنها عار وقد وقع المرضى النفسيون ضحايا لمرض سيء السمعة، حيث تشكل زيارة العيادة النفسية أو العصبية في نظر البعض وصمة اجتماعية، يحاول المريض أو أهله التستر عليها، أو إنكارها وعدم الاعتراف بها، لما يمكن أن تجره من عقابيل سلبية يمكن أن تؤثرعلى سمعة المريض أو أسرته اعتبارياً، أو تعرقل بعض مشاريع الزواج بين أسرتين لهما تاريخ عائلي معين، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: هل هذا معقول، وهل يمكن حقاً أن يفشل زواج ما بسبب زيارة أحدهما للطبيب النفسي..؟
وصمة اجتماعية وأي وصمة؟!
إن الفتاة التي تتوجه إلى زيارة الطبيب النفسي قبل الزواج، ويعلم بذلك الخاطب، لا شك سيغض النظر عن موضوع الارتباط بها، لأنها باعتقاده تعاني من مرض نفسي صعب أو أنها مجنونة، وبالتأكيد مرضها وراثي، ويمكن أن ينتقل إلى أولادها في المستقبل..
وتضيف هنادي- خ-: وسيتبع ذلك سيناريو طويل من الشك والخوف من عواقب طلبها للزواج، وفي النهاية سيبحث عن غيرها، وأول سؤال سيطرحه على أهل الفتاة الجديدة، إذا كان أحد أقاربها يعاني من مرض نفسي، أو قد يجرؤ على سؤال العروس نفسها، إن كانت تعاني من أية أمراض أو اضطرابات نفسية.
كغيره.من الاختصاصات
من منا لم يصب من جراء حادث سير مروع، ومن منا لم يقلق أيام وساعات طويلة وصلت في بعض الأحيان إلى حد الأرق المرضي جراء مشكلة داخلية، أو فقدان عزيز، ومن منا ينكر خوفه من شيء معين إلى الحد المرضي "الفوبيا" مثلاً من المرتفعات أو الأماكن الضيقة المغلقة، والكثير من الأمراض التي نعاني منها، ولكن نعتقد أنها لا تعني شيئاً، يقول مهند-ع: إن حاجتنا إلى الطب النفسي هي كحاجتنا إلى أي طبيب آخر متخصص، كطبيب الأسنان والعيون، فلماذا الخجل، ونحن قد نكون أحوج إليه من غيره من الاختصاصات، خصوصاً في ظل الظروف المحيطة بنا.وإن عاندنا أنفسنا، فإننا للأسف مصابون بأمراض نفسية عديدة، لو آمنا بحقيقة وجودها وضرورة علاجها، لاقتنعنا فعلاً بأهمية زيارتنا إلى الطبيب النفسي، لأن العلاج النفسي في كثير من الحالات يفوق العلاج العضوي...
القرآن الكريم هو ملاذي
سماح علي تقول: رداً على سؤال هل تذهبين إلى الطبيب النفسي؟ لا..لا أذهب إلى الطبيب النفسي، لأني تعودت على لملمة مشاكلي بنفسي، والقرآن الكريم هو الملجأ الأول والأخير لكل العقد والأزمات التي مررت بها، وكذلك إعمال الفكر المتزن والتعقل النابع من الإيمان القوي، هو من أنجح الطرق لتفادي الأزمات..وقد يقال إني ذات ثقافة متخلفة، لكني أعلنها بلا تردد!!.
أزوره..ولكن!!
من وجهة نظرها أنه ثمة حالات تستدعي الذهاب إلى الطبيب النفسي، والتي هي بالتأكيد تحتاج لعلاج، مثلها مثل علاج أمراض الجسم، فلا ضرر من ذلك..
ولكن، تقول ناديا: يبقى التخوف من نظرة المجتمع للشخص بعد أخذه العلاج النفسي، وهذا يعود لثقة الفرد بنفسه، ولقناعته بأهمية عيادة الطبيب النفسي، وأظن أن ذلك هو أهم من نظرات المجتمع القاصرة والقاتلة أحياناً. فالإنسان مهما بلغ من قوة، قد يمر بمراحل ضعف يلجأ فيها إلى الله عزوجل أولاً، ويأخذ بالأسباب، وهذا أظنه الأكثر نجاحاً وفائدة.
تثقيف الأطباء.
هو مفتاح القضاء على وصمة العار
ويروي د. تيسير حسون-اختصاص طب نفسي حكايته مع الأطباء الاختصاصيين، وعدم تفهمهم لمفهوم العلاج النفسي، وكم من الجهد الواجب بذله وعلى المستويات كافة في سبيل تجاوز داء الوصمة الذي يلازمه.يقول: "سألني طبيب اختصاصي بالأمراض القلبية عن نوع الاختصاص الذي أمتهنه، فقلت له طبيب نفسي، فقال: "الله يعينك" لابد من أنك تتعامل مع كثير من المجانين، فقلت له: "في الواقع أنا أعمل مع الناس الذين يواجهون صعوبات في حياتهم، كضغوطات العمل والانفصال، والطلاق، والتحديات الصحية، وتغيير المسكن والخلافات بين الزوجين، فضلاً عن الذين يعانون من اضطرابات نفسية كبرى، كالفصام والاكتئاب والقلق واضطرابات النوم والاضطرابات الجنسية.وشعرت بالغيظ من ملامح الدهشة البادية على وجهه.. لأنه طبيب ويتوجب أن تكون لديه معرفة بطبيعة الاختصاص النفسي والمرض النفسي، من خلال المنهاج الذي درسه في الجامعة على الأقل، كما أنه بوصفه طبيباً، يجب ألا يميز بين مريض وآخر, وكأن المريض النفسي ينتمي إلى فصيلة أخرى..وأيقنت أن مفتاح القضاء على الصورة النمطية ووصمة العار التي تلاحق المريض النفسي، يبدأ بتثقيف الأطباء وتعريفهم بما يجب عليهم معرفته منذ فترة دراستهم للطب على مختلف اختصاصاته.عندما يحوم الموت.. هو المعين على الألم
يقول المريض عماد- د: لقد راجعت نحو خمسين طبيباً بسبب حالة من الخوف أعاني منها، وتسبب لي الكثير من الآلام في جسمي والتدهور في حياتي، لدرجة أنني أنفقت ما يقارب نصف مليون ليرة، على الفحوصات المعقدة، وكانت النتيجة التي يبلغني إياها الطبيب أنه لا توجد مشكلة في الجانب الذي يعنيه، وكل طبيب كان يقول لي، إن مشكلتي نفسية، ولكن أحداً من هؤلاء لم يطلب مني مراجعة طبيب نفسي..ألا تستدعي حالة هذا المريض مراجعة جذرية لأخلاقيات الطب، وإعادة تأهيل علمية، ووضع أسس جديدة لمزاولة المهنة في بلادنا.وللإحجام عن الطب النفسي.. أسبابه وأولها كما يصنفها د. قيصر زحكا، الاختصاصي بالأمراض العصبية والنفسية، قصور الثقافة النفسية في مجتمعاتنا العربية، فهي لا تزال تنظر بالشك والريبة إلى الطب النفسي، ومفهوم اللوثة أو الوصمة السلبية، مرتبط بعلاج الجنون فقط، مع العلم أن الاضطرابات النفسية الشديدة، لا تشكل إلا حوالى 10% من الاضطرابات النفسية العديدة..
ويحتل العامل المادي الترتيب الثاني بين الأسباب، حيث يستغرق العلاج النفسي فترة طويلة، ما يستدعي بالتالي تكلفة كبيرة...
وربما فترة العلاج الطويل، قد تجعل المريض يملّ زيارة العيادة النفسية، لأنه في حالات كثيرة، قد يضطر الطبيب لإجراء جلسات عديدة لكشف عوامل هامة وغامضة في حياة المريض- وأحياناً يلعب عامل الثقة بالطبيب النفسي دوراً هاماً في إحجام المريض عن ارتياد العيادات النفسية..وللتغلب على هذه الظاهرة، يقول د. زحكا: ثبت بالعلم والتجربة أن كل إنسان قد يعاني من اضطرابات نفسية، كما يعاني من اضطرابات جسدية، وعليه يجب ألا نقلل من أهمية أن يلجأ الشخص لطبيب أو معالج نفسي، وقد ازدادت شرائح من يعاني من حالات نفسية في ظل ظروف الحياة الصعبة، والضغوطات التي يتعرض لها الأفراد.. وهذه بدورها قد تؤثر على الحياة الاجتماعية في علاقات العمل وغيرها... وعدم إدراك أهمية الاضطرابات النفسية، يزيد من العنف في المجتمع، ويقلل من العلاقات الصحية والإنتاجية فيه...
وقد ثبت علمياً أيضاً، أن الاضطرابات النفسية تلعب دوراً أساسياً في الأمراض العضوية بحد ذاتها مثل القرحة الهضمية، وارتفاع التوتر الشرياني، والأزمات القلبية، ونوبات الربو، وتشنج القولون والصداع.. وبالتالي فإن علاج الأسباب النفسية والالتفات لها، يجعل علاج المرض العضوي قاصراً ومحدوداً.المثقفون.. أكثر ارتياداً لعيادات الطب النفسي
تستقبل العيادات النفسية، شرائح المجتمع على اختلاف مستوياتها.. لكن تحتل الفئة المثقفة المرتبة الأعلى، لزيادة الوعي بأهمية هذا النوع من العلاج، بينما تلجأ اليها الفئات الأخرى فقط أثناء الحالات المستعصية، لكن لا تزال مراجعة الطبيب النفسي طي الكتمان ومازال المريض النفسي يخفي زيارته للطبيب النفسي...
وتؤكد د. أمل شكو الاختصاصية بالطب النفسي، أن الحالات التي تراجع العيادة النفسية في أغلبها تكون إما بإحالة من أطباء في اختلاف اختصاصاتهم، أو بإيحاء من الأهل وبعض الأصدقاء..
وقد ساهمت العيادات النفسية المتوفرة مجاناً في مراكز الرعاية الصحية، بزيادة الوعي والثقافة حول أهمية الطب النفسي.
فبعد أن كان المرضى يلجؤون إلى الشعوذة والدجل، اتجه الغالبية منهم إلى العيادات النفسية وخصوصاً بعد فضح الأساليب والخدع التي يمارسها الدجالون..وتضيف الدكتورة شكو: إن الطبيب المقيم للاختصاص بالطب النفسي يخضع لتقييم من قبل لجنة من كبار الأطباء النفسيين، ويقرر من خلالها فيما إذا باستطاعته الاستمرار بدراسة هذا الاختصاص أم لا... فالأطباء جميعهم مؤهلون في هذا الاختصاص... وتلفت بدورها إلى أهمية استحداث دور المرشد الاجتماعي في المدارس حيث يكتسب الطالب علاقة جيدة مع مرشده، من خلال عرضه لمشاكل أو ضغوطات قد يتعرض لها، وهذا يؤسس لديه ثقافة نفسية تساعد في تقبله للعلاج النفسي إن احتاج إليه يوماً.
كلام الناس.. لا يقدم ولا يؤخر والسؤال الذي يصر على طرح نفسه: هل ستخجل بعد ذلك من طلب العلاج النفسي؟، وهل سيبقى لكلام الناس أثر علينا، وقد سبق أن جزم موضوع الناس وكلامهم من قبل المطرب (جورج وسوف) فجميعنا يحفظ هذه الأغنية (كلام الناس، لا يقدم ولا يؤخر)... ولكن هيهات.. دعونا نرمي هذه الأمور السطحية وراء ظهورنا، لأنها أصبحت أكثر ثقلاً، وبتنا نحسب حساب الناس ونظرتهم أكثر من اللازم..
وحريّ بنا أن نلتفت إلى أنفسنا أولاً.. وأظن أن الوقت قد حان، كي نذهب إلى العلاج النفسي أو حتى الاستشارة عند اللزوم والحاجة إلى ذلك، ودون خوف أو خجل..
ولمن يعتقد أن الموضوع لا يستحق منا هذا الاهتمام نقول له: هل تجرؤ على زيارة الطبيب النفسي في وضح النهار ومن دون نظارة سوداء، أو هل تجرؤ على استشارته على الهاتف مع ذكر اسمك الحقيقي..؟
إذا كان الجواب نعم.. إذاً لا يوجد قلق.. ولكن إذا كان الجواب لا.. فالقضية تستحق إعادة النظر من جديد..والمفارقة تكمن في أننا أحياناً نبدو غريبي الأطوار، ففي الوقت الذي لا نقتنع فيه بالطب النفسي وأهميته، يسهل علينا أن نزور أحد الدّجالين الذين يدّعون معرفة الغيب.. ويعرفون من أين تؤكل الكتف وكيف..؟!..
ويعلمون أن نقطة ضعفنا في أنفسنا المريضة التي تحتاج إلى علاج ونقتنع بهم، مع معرفتنا لعواقب ما نرتكب.
والله ولي التوفيق
شكرا مشعل على جمال الطرح
منقول من احدى المجلات