( 212 ) مدار الأفكار
غثاء الثناء
يقول الشاعر العربي :
عثمان يعلم أن المدح ذو ثمن = لكنه يبتغي حمداً بمجان
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً = حتى يروا عنده آثار إحسان
إن المدح فن من فنون الشعر العربي,ومن أهم أغراضه فهو المقدم على غيره عند الشعراء؛ ويقوم على
الإعجاب بالممدوح لأعمال تميزه وتعلي شأنه,ولصفات وأخلاق مثلى يتحلى بها، مثل: ( الكرم والشجاعة
والحلم ,ورجاحة العقل ورفعة النسب ومساعدة المحتاج والعفو عند المقدرة وحماية الجار وغيرها، وقد يكون
المديح رغبة في العطاء ووسيلة للتكسب عند الحكام والأمراء والأثرياء,ويتخذ الشعراء عادة من المدح المبالغ
فيه حافزًا للممدوح على المزيد من البذل والعطاء,وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ،وذم المداحين
فقال لرجل أثنى على رجل عنده : ( ويلك ، قطعت عنق أخيك - ثلاثا - من كان منكم مادحا لا محالة
فليقل : أحسب فلانا ، والله حسيبه ، ولا أزكي على الله أحدا ، إن كان يعلم ) , وسمع النبي صلى الله عليه
وسلم رجلا يثني على رجل ويطريه في المدح، فقال: ( أهلكتم ، أو قطعتم ظهر الرجل ) , وعن مُعَاوِيَة بن
أبي سفيان رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( َإِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ ) ,وقال أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( المدح ذبح ) ,وقال الإمام بن القيم الجوزية : (لا يجتمع
الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس ، إلا كما يجتمع الماء والنار) ,وَقَالَ الْغَزَالِيّ
فِي " الْإِحْيَاء " : آفَة الْمَدْح فِي الْمَادِح أَنَّهُ قَدْ يَكْذِب ، وَقَدْ يُرَائِي الْمَمْدُوح بِمَدْحِهِ ،وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ
ظَالِمًا ) ,فالمديح المبالغ به قد يكون سبباً في إعجاب الممدوح بنفسه، أو تكبره فيهلك بسبب ذلك ,أما اليوم
فإن قنوات الشعر الفضائية تعج بشعراء التسول والتمثيل و بقصائد والتكسب والنفاق والتملق,وبالمدح
المتطرف وغير المقبول لا شرعا ولا عرفا, وقد تطرق لذلك الزميل قاسم الرويس فقال : (إن التطرف في
المدح هو السائد في ساحتنا الشعبية؛ وهو تطرف على جانبين فتفريط بمدح من لا يستحق أو مدح من يستحق
بصفات لا يستحقها وهذا أمر يلاحظه الجميع في أغلب قصائد المدح الجوفاء، أما الجانب الآخر فإفراط يصل
إلى الغلو؛ والإفراط والتفريط هنا يتحمل مسؤوليتهما الممدوحين الذين لا يفقهون معاني الشعر ومدلولاته
وبالتالي لا ينكرون مزالق الشعراء وتجاوزاتهم الدينية ) ,ومن الأبيات التي ذكرت كأمثلة على الإفراط في
المدح على حساب المحاذير الدينية قول أحد الشعراء : (والله يا لولا الواحد الفرد الصمد *وخوفي على ديني
وسيرة مذهبي , إني لاحلّق لين أجي قمة أحد * وإني لاقول إنك نبي وابن نبي ) , وقول شاعر آخر : (شيخٍ
لو أني ما مدحت فعوله * شككت في قوميتي وإسلامي) ,وقول شاعر ثالث: (مادام سلطان الكرم حي ّ وبخير
*ما عاد ننشد لو تقوم القيامة ) , ويقول غيرهم: ( يا المهدي المنتظر بالحاجتين الجسام*المدة المسكتة والأخذ
بيد الضرير) ,ويقول شاعر رابع : (لو أن منت تعيش في كوكب الأرض *ونشوفك تسولف وتضحك معانا
,أكيد نبغا نقول يا طاهر العرض *مَلك ونزله الولي من سمانا) ,ولم يكتف الشاعر السابق بمدح الممدوح
ولكنه انتقل إلى مدح أمه بقوله : (يا أميرة مؤمنين بلاد راشد * وأم أكرم من خلق فأمة محمد ,تنجب الزهراء
أحفاد أبي طالب *الحسين أو الحسن والعز منمد ,أنتِ الله شرفك عن من سواكِ *يكفي أن بطنك طلع منه
محمد),وآخر النماذج المتجاوزة إلى دائرة الإفك كما نعتها الرويس في مقالته القيمة الموسومة ( شعراءٌ كأنها
الخازباز ) ,قول أحد الشعراء : ( مدح شيخٍ ما هو كفو المدايح مذمة *وإلا حمدان من لا يمدحه ابن حرام )
, فقصائد المدح المبالغ بها تعد من أسوأ الأعمال التي يقدمها الشعراء,ولن يكتب لها الخلود والبقاء, وكما يقول
الربيع بن خثيم رحمه الله : ( كل مالا يراد به وجه الله يضمحل ) , ورحم الله الملك عبد العزيز آل سعود
الذي غضب وانفعل عندما مدحه أحد الشعراء بقصيدة مطلعها: (أنت آمالنا وفيك الرجاء ) , وأسكت الشاعر
بعنف وأوضح ما في هذا البيت من أمور لا يصلح أن يقصد بها غير الله سبحانه وتعالى ،, فمراقبة الله يجب
أن تكون في السر والعلن , وفي القول والعمل .
يا مبالغ ٍ بالمدح في نظم الأشعار = راقب ولي العرش وال المقادير
خل لقصيدك والمضامين تعبار = واحذر مديح ٍ يختلط بالمحاذير
ترى الثناء له حد في عرف الأخيار = وازن وحاسب وإبتصر بالتعابير